[ ص: 70 ] 9 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام مما كان منه في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد موته من صلاته عليه ، ومما يدل على خلاف ذلك كان منه فيه
68 - حدثنا يزيد بن سنان ، وإبراهيم بن أبي داود جميعا ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عقيل بن خالد بن شهاب ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، عن عمر أنه قال : { لما مات عبد الله بن أبي بن سلول ، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله عليه السلام ، وثبت إليه ، فقلت : يا رسول الله ، أتصلي على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا وكذا : كذا وكذا ، أعدد عليه قوله ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : أخر عني يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له زدت عليها ، قال : فصلى عليه } . هكذا حدثناه يزيد ، وابن أبي داود خاصة في حديثه ، ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : [ ص: 71 ] ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، إلى قوله تعالى : وهم فاسقون .
69 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، وأحمد بن داود بن موسى جميعا قالا : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثني عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر { أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى رسول الله عليه السلام فقال : يا رسول الله ، أعطني قميصك أكفنه به ، وصل عليه ، واستغفر له ، فأعطاه قميصه ، ثم قال : آذني به أصل عليه فآذنه ، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر ، وقال : أليس الله قد نهاك أن [ ص: 72 ] تصلي على المنافقين ؟ فقال : أنا بين خيرتين : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، فنزلت : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، فترك الصلاة عليهم } .
70 - حدثنا فهد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : { لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ، فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه ، وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ، وسأزيده على سبعين ، فقال : إنه منافق ، فصلى عليه رسول الله ، فأنزل الله : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } .
قال أبو جعفر : ففي حديث ابن عمر هذا قول عمر لرسول الله عليه السلام : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين في حديث [ ص: 73 ] يحيى بن سعيد ، وفي حديث أبي أسامة ، وقد نهاك الله أن تصلي عليه .
وليس ذلك في حديث ابن عباس الذي رويناه قبله ، ومكان ذلك في حديث ابن عباس " أتصلي عليه ، وقد قال يوم كذا وكذا : كذا وكذا " .
والذي في حديث ابن عباس من هذا أولى عندنا مما في حديث ابن عمر ؛ لأن محالا أن يكون الله تعالى ينهى نبيه عن شيء ، ثم يفعل ذلك الشيء ولا نرى هذا إلا وهما من بعض رواة هذا الحديث ، والله أعلم .
71 - وحدثنا أحمد بن داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : { أوصى رأس المنافقين أن يصلي عليه النبي عليه السلام ، وأن يكفنه في قميصه ، فلما مات كفنه في قميصه ، وصلى عليه ، وقام على قبره فأنزل الله : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } .
قلت : ظن عمر أن في قوله : استغفر لهم الآية نهيا عن الصلاة عليهم ، فأعلمه النبي عليه السلام أن ذلك ليس بنهي ، ولم يكن قوله [ ص: 74 ] تعالى : ولا تصل على أحد منهم نزل بعد وهذا بين في الخبر .
ومما يؤكد هذا ، وأن الأمر على خلاف ما ظنه أبو جعفر :
72 - ما رواه يعقوب بن شيبة ، عن سنيد بن داود ، عن حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن علي بن الحسين ، قال : { لما توفي عبد الله بن أبي ، جاء ابنه الحباب ، وكان من صالحي أصحابه فقال : يا رسول الله ، إن أبا الحباب قد مات فأعطه قميصك الذي يلي جلدك أكفنه فيه ، وصل عليه ، فقال عمر : أتصلي على هذا وقد نهى الله عنه ؟ قال : وأين النهي يا ابن الخطاب ؟ فقرأ عليه : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إلى قوله الله لهم قال : وأين النهي ، ترى نهيا ، فأعطاه قميصه ، وصلى عليه } .
قال أبو جعفر : وفيما روينا من هذه الآثار صلاة رسول الله عليه السلام على ابن أبي ، وقد روي عنه ما قد دل على أنه لم يكن صلى عليه .
73 - كما حدثنا عبد الغني بن رفاعة بن أبي عقيل أبو جعفر اللخمي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمع جابرا يقول : { أتى النبي عليه السلام ابن أبي بعد ما أدخل [ ص: 75 ] حفرته ، فأمر به فأخرج ، فوضعه على ركبتيه ، ونفث عليه من ريقه ، وألبسه قميصه صلى الله عليه } ، والله أعلم .
74 - وكما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : { لما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنك إن لم تشهده لم نزل نعير به ، فأتاه وقد أدخل في حفرته فقال : أفلا قبل أن تدخلوه قال : فأخرج من حفرته ، فتفل عليه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه } .
75 - وكما حدثنا أحمد بن الحسن بن قاسم الكوفي ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا عبد الملك ، عن أبي الزبير ، عن جابر مثله .
قال أبو جعفر : ففي هذا ما قد دل أنه لم يكن صلى عليه ولا شهده ولا أتاه قبل ذلك .
وهذا هو أشبه بأفعاله كانت فيمن سواه من الناس ؛ أن صلاته على [ ص: 76 ] من كان يصلي عليه إنما كانت لما يفعل الله لمن صلاها عليه .
76 - كما قد حدثنا علي بن شيبة ، حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري ، حدثنا هشيم ، عن عثمان بن حكيم الأنصاري ، عن خارجة بن زيد ، عن يزيد بن ثابت أن رسول الله عليه السلام قال : { لا أعرفن أحدا من المؤمنين مات إلا آذنتموني للصلاة عليه ؛ فإن صلاتي عليهم رحمة } .
77 - وما حدثنا فهد ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام { أنه دخل المقبرة فصلى على رجل بعد ما دفن فقال : ملئت هذه المقبرة نورا بعد أن كانت مظلمة عليهم } .
قال أبو جعفر : وإذا كانت صلاته لمن كان يصلي عليه إنما كانت لمن ذكر في هذين الحديثين ، ولم يكن ابن أبي ممن يدخل في ذلك ، استحال أن [ ص: 77 ] يكون صلى عليه ، وقد ترك عليه السلام الصلاة على من غل من الغنائم ، وهو ممن كان غزا معه لقتال أعدائه ممن لا يعلمه لحقه ذم من فعل كان منه سوى ذلك ، وأباح غيره ممن كان معه الصلاة عليه .
78 - كما حدثنا المزني ، حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن أبي عمرة ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : كنا مع النبي عليه السلام بخيبر ، فمات رجل من أشجع ، فلم يصل عليه النبي عليه السلام ، وقال : { صلوا على صاحبكم ، فنظروا في متاعه ، فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين } .
[ ص: 78 ]
79 - وكما قد حدثنا المزني أيضا ، حدثنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : سمعت محمد بن يحيى يحدث عن أبي عمرة ، عن زيد بن خالد { أن رجلا توفي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشجع يوم خيبر ، وأنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أنه قال لهم : صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فزعم أن رسول الله عليه السلام قال : إن صاحبكم قد غل في سبيل الله ، قال : ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ، والله ما يساوي درهمين } .
قال أبو جعفر : فإذا كان من سنته أن لا يصلي على من غل من المؤمنين ؛ لأنه بغلوله غير مستحق للمدح في صلاته عليه ، ولا مستحق لسؤاله له ربه ما يسأله له في صلاته عليه ، ممن هو بريء من مثل ذلك ؛ كانت صلاته على المنافقين الذين قد أخبره الله بكفرهم أبعد وبتركها عليهم أحق .
وكذلك ما روي عنه في تركه الصلاة على من قتل نفسه ممن كان ينتحل الإسلام .
[ ص: 79 ]
80 - كما قد حدثنا ابن معبد ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل ، وشريك ، وزهير ، عن سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة : { أن رجلا نحر نفسه بمشقص فلم يصل عليه النبي عليه السلام } .
وإذا كان لم يصل على هذا الرجل ، وهو من أهل الإسلام لما كان منه من قتل نفسه ، كان بأن لا يصلي على من حرمه عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وعلى نفسه فوق ذلك أحرى ، وبتركه إياه عليه أولى ، وقد كانت سنته فيمن كان يموت من أمته فيدعى للصلاة عليه أن يعتبر في أمره من أحواله .
81 - ما قد حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي ذئب ، ويونس بن يزيد ، وما قد حدثنا بحر بن نصر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس - ولم يذكر ابن أبي ذئب - ثم اجتمعا جميعا فقالا : عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين فيسأل ما ترك لدينه من قضاء ، فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه ، وإلا قال : صلوا على صاحبكم ، فلما فتح الله عليه الفتوح ، قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا فهو لورثته } .
[ ص: 80 ] قال أبو جعفر : وإذا كان لا يصلي على المدينين من المؤمنين من الموتى ؛ لأنهم محبوسون عن الجنة بديونهم التي عليهم ، كما قد روي عنه في ذلك .
82 - مما قد حدثناه المزني ، حدثنا الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري ، عن أبيه قال : { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، يكفر الله عني خطاياي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فلما ولى الرجل ناداه ، أو أمر به فنودي فقال : كيف قلت ، وأعاد عليه القول فقال : نعم ، إلا الدين . كذلك قال لي جبريل عليه السلام } .
83 - ومما قد حدثناه المزني ، حدثنا الشافعي ، حدثنا سفيان ، عن ابن عجلان ، عن محمد بن قيس ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه : { أن رجلا أتى النبي عليه السلام فقال : يا رسول الله ، أرأيت إن ضربت بسيفي هذا في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير [ ص: 81 ] مدبر أتكفر عني خطاياي ؟ فقال : نعم ، فلما أدبر قال : تعال ، هذا جبريل يقول : إلا أن يكون عليك دين } .
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : أتكفر عني خطاياي ؟ أي : أدخل الجنة ، فأجابه بما أجابه به في ذلك ، كان بأن لا يصلي على من هو محبوس عن الجنة ، بما هو أغلظ من الدين أحرى .


