التامة التي أجمع عليها المسلمون ، وقوتل بها الكافرون ، وظهر بها الدين ، كانت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان . وخلافة علي اختلف فيها أهل القبلة ، ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين ، [ ولا قهر ] [2] .
ونقص للكافرين ، ولكن هذا لا يقدح في أن عليا كان خليفة راشدا مهديا ، ولكن لم يتمكن كما تمكن غيره ، ولا أطاعته الأمة كما أطاعت غيره ، فلم يحصل في زمنه من الخلافة التامة العامة ما حصل في زمن الثلاثة ، مع أنه من الخلفاء الراشدين المهديين .
وأما الذين قالوا : إن معاوية - رضي الله عنه - كان مصيبا في قتاله له [3] .
، [ ص: 405 ] ولم يكن علي - رضي الله عنه - [4] ، في قتاله لمعاوية ، فقولهم أضعف من قول هؤلاء . وحجة هؤلاء أن معاوية - رضي الله عنه - كان طالبا [5] .
بدم عثمان - رضي الله عنه - ، وكان هو ابن عمه ووليه ، وبنو عثمان وسائر عصبته اجتمعوا إليه وطلبوا من علي أن يمكنهم من قتلة عثمان أو يسلمهم إليهم ، فامتنع علي من ذلك ، فتركوا مبايعته فلم [6] .
يقاتلوه ، ثم إن عليا بدأهم بالقتال فقاتلوه دفعا عن أنفسهم وبلادهم . قالوا : وكان علي باغيا عليهم .
وأما الحديث الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمار : " تقتلك الفئة الباغية " [7]
فبعضهم ضعفه ، وبعضهم تأوله . فقال بعضهم معناه : الطالبة [8] .
لدم عثمان - رضي الله عنه - ، كما قالوا : نبغي ابن عفان بأطراف الأسل . وبعضهم قال [9] .
: ما يروى عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال لما ذكر [10] .
له هذا الحديث : أونحن قتلناه ؟ إنما قتله علي وأصحابه حيث ألقوه بين أسيافنا .
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه ذكر له هذا التأويل ، فقال : فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يكونون حينئذ قد قتلوا حمزة وأصحابه يوم أحد ؛ لأنه قاتل معهم المشركين .
[ ص: 406 ] وهذا القول لا أعلم له قائلا من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة ، ولكن هو قول كثير من المروانية [11] .
ومن وافقهم . ومن هؤلاء من يقول : إن عليا [12] .
شارك في دم عثمان ، فمنهم من يقول : إنه [13] .
أمر علانية ، ومنهم من يقول إنه [14] .
: أمر سرا ، ومنهم من يقول : بل رضي بقتله وفرح بذلك ، ومنهم من يقول غير ذلك . وهذا كله كذب على علي - رضي الله عنه - وافتراء عليه [15] .
، فعلي - رضي الله عنه - لم يشارك [16] .
في دم عثمان ولا أمر ولا رضي . وقد روي عنه - وهو الصادق البار [17] .
- أنه قال : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله . وروي عنه أنه قال : ما قتلت ولا رضيت . وروي عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان ، فقال : اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر ، والسهل والجبل . وروي أن أقواما [18] .
شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان [19] .
، وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم وأنه [20] .
من قتلة عثمان ، وأنه آوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله .
[ ص: 407 ] وهذا وأمثاله [ مما ] [21] .
يبين شبهة الذين قاتلوه ، ووجه اجتهادهم في قتاله [22] .
، لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله ; وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقا لهم [23] .
، وقد اعتذر بعض الناس عن علي بأنه [24] .
لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم ، أو بأنه كان [25] .
لا يرى قتل الجماعة بالواحد ، أو بأنه لم يدع عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له .
ولا حاجة إلى هذه الأعذار [26] .
، بل لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء ، ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس ؛ لأنهم كانوا عسكرا ، وكان لهم قبائل تغضب لهم ، والمباشر منهم للقتل ن ، م : القتل .
- وإن كان قليلا - فكان ردؤهم [27] " .
أهل الشوكة ، ولولا ذلك لم يتمكنوا . ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان ، قام بسبب ذلك حرب قتل فيها [28] .
خلق .
ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع [29] .
الناس عليه بعد موت علي ، [ ص: 408 ] وصار أميرا على جميع المسلمين ، ومع هذا فلم [30] .
يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا [31] .
بل روي عنه أنه [ لما ] [32] .
قدم المدينة [33] ) .
حاجا فسمع الصوت في دار [34] .
عثمان : " يا أمير المؤمنيناه ، يا أمير المؤمنيناه " [35] .
، فقال : ما هذا ؟ قالوا : بنت عثمان تندب عثمان . فصرف [36] .
الناس ، ثم ذهب إليها فقال : يا ابنة عم إن الناس قد بذلوا لنا الطاعة على كره ، وبذلنا لهم حلما على غيظ ، فإن رددنا حلمنا ردوا طاعتهم ؛ ولأن تكوني بنت أمير المؤمنين خير من أن تكوني واحدة من عرض الناس ، فلا أسمعنك بعد اليوم ذكرت عثمان .
فمعاوية - رضي الله عنه - ، الذي يقول المنتصر له : إنه كان مصيبا في قتال علي ، لأنه كان طالبا لقتل [37] .
قتلة عثمان ، لما [38] .
تمكن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان . فإن كان قتلهم واجبا ، وهو مقدور له ، كان فعله بدون قتال المسلمين أولى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك ، ولو قتل معاوية قتلة عثمان لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي [ ص: 409 ] صفين . وإن كان معاوية معذورا في كونه لم يقتل قتلة عثمان إما [39] .
لعجزه عن ذلك ، أو لما يفضي إليه ذلك من الفتنة وتفريق [40] .
الكلمة وضعف سلطانه ، فعلي أولى أن يكون معذورا [ أكثر ] [41] .
من معاوية ، إذ كانت الفتنة وتفريق [42]
الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشد . ومن قال : إن قتل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان ، فقتل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا ، وهو لم يفعل ذلك لما تولى [43] .
، ولم يقتل قتلة عثمان .
وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت . فأما إذا أقبلت فإنها تزين ، ويظن أن فيها خيرا ، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء ، صار ذلك مبينا لهم مضرتها ، وواعظا لهم أن يعودوا في مثلها . كما أنشد [ بعضهم ] [44] . : -
الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها
ولت [45] . عجوزا غير ذات حليل [46] .
[ ص: 410 ] شمطاء ينكر [47] .
لونها وتغيرت
[48] .
مكروهة للشم والتقبيل
.
والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر ، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت ، وصارت [50] .
عبرة لهم ولغيرهم .
ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين ، تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله ، لما يحصل له من الضرر في دينه ، ودنياه [51] .
. ولهذا كانت من باب المنهي عنه ، والإمساك عنها من المأمور به ، الذي قال الله فيه : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) .


