الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أريد طرقًا عملية للتخلص من الشعور بالكبر والعجب..

السؤال

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

بارك الله فيكم، أريد أن تساعدوني في مشكلتي، وأسأل الله عز وجل أن يوفقكم في ذلك.

تبيّن أنّ عندي كبرًا خفيًا، ورأيت علاماته من نفسي في مواقف عدة، وأحمد الله عز وجل أن بصّرني بعيبي، وأسأله أن يعينني على علاجه.

ظاهريًا لا تبدو علي علامات الكبر، فلا أعامل الناس باحتقار، ولا أرد الحق إذا تبين لي، ولا أجادل بالباطل لدحضه، ولكن باطنًا أشعر بذلك، فمثلاً: عندما يأتي شخص لنصحي، أو إرشادي إلى خطأ ارتكبته، أشعر بشعور غريب، وأجادله في الأمر، ولكن حين أكتشف خطئي، ويقنعني، أتوقف عن ذلك وأعترف، ولكن يبقى ذلك الشعور في نفسي وكأني أقول: كيف لم أفهمها بطريقة صحيحة، وظهرت بصورة غبية.

أو مثلاً: عندما ينتقد شخص شيئًا يخصني كأن يذم طبخي، أشعر أني لا أتقبل هذا النقد باطنًا، ويأتيني نفس ذاك الشعور الغريب، أقول له أن لكل ذوقه في الطعام، وأقبل ذلك، ولكن باطنًا أريد أن أقول له: إذا لم يعجبك لا تأكل، أو عندما يريد أحد أن يعلمني شيئًا كأن تعلمني أمي، كيف أعدّ العجينة، وأنا أعرف ذلك أشعر بنفس ذاك الشعور، ولا أرغب إلا بصنعها على طريقتي وبنفسي.

وأخيرًا: والذي صدمني أني إذا دعوت الله -عز وجل- أن يجعلني أمة له، كما يحب ويرضى أشعر بذات الشعور، وأعوذ بالله من أن أتكبر على الله عز وجل.

أعلم أن الكبر آفة عظيمة، وأنها مهلكة، وأكره أن يكون في قلبي ذرة كبر، والتي قد تكون سببًا في غضب الله، وعدم دخول الجنة، ولكن ذلك الشعور أقوى مني، أريد أن أعالج نفسي، وأن لا أشعر به مجددًا.

قرأت كثيرًا عن عواقب الكبر، وأعلم جيدًا خطورته، وأخاف منه، ولكن أريد طرقًا عملية للتخلص منه؟ هل أذل نفسي أمام الناس لتأديبها، أم أتواضع ظاهرًا أكثر للناس حتى يستقيم الباطن؟

جزاكم الله خيرًا، انصحوني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ تسنيم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختنا الكريمة- في إسلام ويب، وردًا على استشارتك أقول مستعينًا بالله تعالى:

حرصكِ على طرح هذه الاستشارة يدل على صفاء قلبك، وصدق نيتك، وعمق وعيك الإيماني؛ لأن من يرى عيب نفسه، ويجاهدها كي يُصلحها فهو في الطريق الصحيح للقرب من الله تعالى، وما تشعرين به ليس تكبرًا خالصًا، بل هو من الكبر الخفي، والذي قد لا يَسلم منه إلا من سلَّمه الله تعالى.

حقيقة الكبر بَطَرُ الحق، أي دفعه وعدم قبوله، وغمط الناس، أي احتقارهم والتكبر عليهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، أذلك من الكبر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس». وهو الذي توعَّد الإنسان في حال تلبُّسه به بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر».

أنتِ -وبفضل الله تعالى- لا تفعلين هذين الأمرين عمليًا، وإنما تشعرين بشعور داخلي مؤقت، ثم تعودين فتقرِّين بالحق وتتواضعين، وهذا دليل على أن إيمانك حيٌّ، وأنك تجاهدين نفسك، وما تحسين به ليس تكبرًا حقيقيًا كما أشرنا، وإنما هو كِبر خفي.

إن حقيقة ما تشعرين به ناتج عن حب النفس الفطري الذي يدفع الإنسان للاعتداد بالنفس، والدفاع عن الذات أمام من ينتقدها وينصحها خشية أن ينتقص منها، غير أن المشكلة تكمن في عدم ترويض النفس لقبول الحق مباشرة، وعدم الاستمرار في محاسبتها وتربيتها، والأمر كما قال العلَّامة ابن القيم -رحمه الله-: «أصل الكِبر من جهل الإنسان بنفسه وجهله بربه، فلو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنه أضعف من أن يتكبر».

ودونك بعض الخطوات العملية لعلاج الكِبر الخفي:

• كثرة ذكر الله والاستغفار، والتذلل بين يدي الله تعالى.
• مخالطة الفقراء والمساكين، ومعايشتهم، والأكل معهم، وزيارتهم، والتصدق عليهم.
• الإكثار من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
• الإكثار من هذا الدعاء: "اللهم اجعلني صغيرًا في عيني، كبيرًا في أعين الناس".

• تذكير النفس بحقيقتها، وتعريفها ممَّ خُلقت، وماذا تحمل في أحشائها؛ فقد خُلقت من ماءٍ مهين، وتحمل القذر بين أحشائها، فهذا يجعل الإنسان يستصغر نفسه فيبتعد عن الكِبر.
• التفكر في عظمة مخلوقات الله سبحانه، وضعف الإنسان بينها، يعين على التواضع والتذلل بين يدي الله تعالى.
• تذكُّر عظمة الله سبحانه من خلال التفكر في مخلوقاته كالسماوات والبحار والجبال وغيرها.
• التذكُّر بافتقار النفس إلى الله تعالى، والنظر في أحوال من هم أرفع وأعظم منا ممَّن أعطاهم الله من الصفات العظيمة، يُورث التواضع ويطرد العجب والكِبر.

• مداومة القراءة للقرآن الكريم وتدبره، والاستعانة بكتب التفسير الميسَّرة التي تُعين على التدبر، تُورث التواضع وتعين على التذلل بين يدي الله.
• القراءة في كتب الرقائق والآداب، وآفات النفوس، وسير الصالحين مثل: كتاب منهاج القاصدين، ورياض الصالحين، والدواء والداء، تُعين الإنسان على التواضع، ونبذ الكِبر واحتقاره، واكتساب الأخلاق الفاضلة.
• كثرة التضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى، مع تحيُّن أوقات الإجابة، وخاصة في الثلث الأخير من الليل، وأثناء السجود، وسؤال الله تعالى أن يرزقك التواضع، ويذهب عنك الكبر، وأن يهديك لأحسن الأخلاق، ويصرف عنك سفسافها.

• عوِّدي وربي نفسك على قبول النقد مباشرة بعد التفكر في صحة ما قيل، ولا تترددي في أن تدعي لمن وجَّهك التوجيه الصحيح، فالأخلاق بالتخلُّق، والحلم بالتحلُّم، والعلم بالتعلُّم، والأخلاق منها ما يكون جبليًا ومنها ما يُكتسب.
• عادةً ما ترفض النفس الأمَّارة بالسوء النقد، ولكن أوصيكِ في حال الشعور بالنفور من النقد والانقباض منه أن تهدئي أولًا، ثم تتجاهلي ذلك الشعور، ثم تتفكري في صحة النقد من عدمه، فإن وجدته صحيحًا فلا تترددي في قبوله، وبهذه الطريقة ستعتاد نفسك على التواضع وقبول التوجيه.

• يُقال: «إن الظاهر عنوان الباطن»، فالتواضع الظاهري يُصلح الباطن، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من تواضع لله رفعه الله»، وقد نصَّ أهل العلم على أن من تواضع بظاهره رفعه الله باطنًا.
• محاسبة النفس، وخاصة قبل النوم، وإجالة النظر فيما قامت به من أفعال، مما يعين المرء على إصلاحها وتهذيبها، مع كثرة الدعاء: «اللهم طهِّر قلبي من الكبر والرياء والعجب، واملأه تواضعًا لك ولعبادك».

• افعلي أفعال المتواضعين حتى يستقيم قلبك، ومن ذلك:
- القيام بخدمة الناس ولو في بعض الأمور اليسيرة، وتعويد النفس على ذلك، مثل المساعدة في حمل بعض الأغراض التي يحملها الغير، وإعانة العاجز على قطع الطريق ونحو ذلك.
- مجالسة الضعفاء والفقراء والبسطاء، ومحاورتهم، والتعرُّف على احتياجاتهم، والإصغاء إليهم بشفقة ورحمة ومحبة، والقيام بمساعدتهم، وتقديم الخدمات لهم، والتواصل مع بعض الخيرين والموسرين لمساعدتهم.
- الثناء على من علَّمك شيئًا، أو دلَّك على عيوبك، والدعاء لهم بظهر الغيب.
- الاعتذار لكل من أخطأتِ بحقه دون تردد.

أخيرًا أقول لك: احمدي الله تعالى الذي بصَّرك بعيبك، ورزقك نعمة الإدراك لما في نفسك من الخلل، وهذه علامة من علامات التوفيق، كما قال بعض السلف: «معرفة الداء نصف الدواء».

تذكري أن التواضع لا يعني الذل، بل هو نوع من أنواع التعبُّد لله سبحانه، وتذكري أن من تواضع لله رفعه الله، ومن رفع نفسه تكبُّرًا وضعه الله ونفَّر الناس عنه، وتذكري كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «يُحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم».

شعورك أثناء الدعاء، وخوفك من أن يكون فيك كِبر تجاه ربك، علامة من علامات التواضع، وهذا الشعور المزعج نوع من وسوسة الشيطان الرجيم يريد أن يُحزنك، فعليك أن تستعيذي بالله من الشيطان الرجيم كلما شعرتِ بمثل هذا الشعور.

كوني على يقين أن الله تعالى سيوصلك إلى مطلوبك طالما أنكِ تجاهدين لإصلاح نفسك، وصدق الله إذ يقول:"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"، فاستمري في مجاهدة نفسك مع الإكثار من الدعاء.

نوصيكِ بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها، وإطالة الركوع والسجود والدعاء، مع المحافظة على أذكار اليوم والليلة، وتلاوة القرآن الكريم واستماعه.

نسأل الله تعالى لكِ التوفيق والعون، والله الموفق، ونسعد بتواصلك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً