[ ص: 541 ] سنة ثلاث عشرة من الهجرة . 
استهلت هذه السنة والصديق  عازم على جمع الجنود ; ليبعثهم إلى الشام   ، وذلك بعد مرجعه من الحج ، وذلك عملا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين    [ التوبة : 123 ] . وبقوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر  الآية [ التوبة : 29 ] . واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإنه جمع المسلمين لغزو الشام  وذلك عام تبوك ، حتى وصلها في حر شديد وجهد ، فرجع عامه ذلك ، ثم بعث قبل مؤتة أسامة بن زيد  مولاه ; ليغزو تخوم الشام  ، كما تقدم ، ولما فرغ الصديق  من أمر جزيرة العرب بسط يمينه إلى العراق  ، فبعث إليها خالد بن الوليد ، ثم أراد أن يبعث إلى الشام   كما بعث إلى العراق  ، فشرع في جمع الأمراء في أماكن متفرقة من جزيرة العرب . وكان قد استعمل عمرو بن العاص  على صدقات قضاعة ،  معه الوليد بن عقبة  فيهم ، فكتب إليه يستنفره إلى الشام    : إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ، وسماه لك أخرى ، وقد أحببت ، أبا عبد الله ، أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك . فكتب إليه عمرو بن العاص    : إني سهم من سهام الإسلام ، وأنت فعبد الله الرامي بها ، والجامع لها ، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها . وكتب إلى الوليد بن عقبة 542   [ ص: 542 ] بمثل ذلك ، ورد عليه مثله ، وأقبلا - بعدما استخلفا في عملهما - إلى المدينة . 
وقدم  خالد بن سعيد بن العاص  من اليمن  ، فدخل المدينة  وعليه جبة ديباج ، فلما رآها عمر  عليه أمر من هناك من الناس بتمزيقها عنه ، فغضب خالد بن سعيد  ، وقال لعلي بن أبي طالب    : يا أبا الحسن  ، أغلبتم يا بني عبد مناف  عن الإمرة ؟ فقال له علي : أمغالبة تراها أم خلافة ؟ فقال : لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم . فقال له عمر بن الخطاب : اسكت فض الله فاك ، والله لا تزال كاذبا تخوض فيما قلت ، ثم لا تضر إلا نفسك ، وأبلغها عمر  أبا بكر  ، فلم يتأثر لها أبو بكر  ، ولما اجتمع عند الصديق  من الجيوش ما أراد ، قام في الناس خطيبا ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم حث الناس على الجهاد فقال : ألا لكل أمر جوامع ، فمن بلغها فهي حسبه ، ومن عمل لله كفاه الله ، عليكم بالجد والقصد ، فإن القصد أبلغ ، ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له ، ولا إيمان لمن لا حسبة له ، ولا عمل لمن لا نية له ، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ، هي التجارة التي دل الله عليها ، ونجى بها من الخزي ، وألحق بها الكرامة . 
ثم شرع الصديق  في تولية الأمراء ، وعقد الألوية والرايات ، فيقال : إن أول لواء عقده  لخالد بن سعيد بن العاص  ، فجاء عمر بن الخطاب  فثناه عنه وذكره بما قال ، فلم يتأثر به الصديق  كما تأثر به عمر  ، بل عزله عن الشام   وولاه أرض   [ ص: 543 ] تيماء  يكون بها فيمن معه من المسلمين حتى يأتيه أمره . ثم عقد لواء يزيد بن أبي سفيان  ، ومعه جمهور الناس ، ومعه  سهيل بن عمرو  وأشباهه من أهل مكة   ، وخرج معه ماشيا يوصيه بما اعتمده في حربه ومن معه من المسلمين ، وجعل له دمشق    . وبعث  أبا عبيدة بن الجراح  على جند آخر ، وخرج معه ماشيا يوصيه ، وجعل له نيابة حمص    . وبعث عمرو بن العاص  ومعه جند آخر ، وجعله على فلسطين    . وأمر كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الآخر ; لما لحظ في ذلك من المصالح ، وكان الصديق  اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب  حين قال لبنيه : يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون    [ يوسف : 67 ] . فكان سلوك يزيد بن أبي سفيان  على تبوك   . قال  المدائني  بإسناده عن شيوخه ، قالوا : وكان بعث أبي بكر  هذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة    . 
قال محمد بن إسحاق  ، عن صالح بن كيسان    : خرج أبو بكر  ماشيا ويزيد بن أبي سفيان  راكبا ، فجعل يوصيه ، فلما فرغ قال : أقرئك السلام وأستودعك الله   . ثم انصرف ومضى يزيد  فأخذ التبوكية ، ثم تبعه شرحبيل ابن حسنة  ، ثم أبو عبيدة  مددا لهما ، فسلكوا ذلك الطريق ، وخرج عمرو بن العاص  حتى نزل العربات من أرض الشام  ويقال : إن يزيد بن أبي سفيان  نزل البلقاء  أولا ، ونزل شرحبيل  بالأردن  ، ويقال : ببصرى   . ونزل  أبو عبيدة بالجابية ، وجعل   [ ص: 544 ] الصديق  يمدهم بالجيوش ، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحب من الأمراء . ويقال : إن أبا عبيدة  لما مر بمآب  من أرض البلقاء  قاتلهم حتى صالحوه ، وكان أول صلح وقع بالشام    . 
ويقال : إن أول حرب وقع بالشام  أن الروم  اجتمعوا بمكان يقال له : العربة . من أرض فلسطين ، فوجه إليهم  يزيد أبا أمامة في سرية فقتلهم وغنم منهم ، وقتل منهم بطريقا عظيما . ثم كانت بعد هذه وقعة مرج الصفر  ، استشهد فيها  خالد بن سعيد بن العاص  وجماعة من المسلمين . ويقال : إن الذي استشهد في مرج الصفر  ابن  لخالد بن سعيد    . وأما هو ففر حتى انحاز إلى أرض الحجاز    . فالله أعلم . حكاه ابن جرير    . 
قال ابن جرير    : ولما انتهى خالد بن سعيد  إلى تيماء  اجتمع له جنود من الروم  في جمع كثير من نصارى العرب ;  من بهراء ،  وتنوخ ،  وبني كلب ،  وسليح ،  ولخم ،  وجذام ،  وغسان ،  فتقدم إليهم خالد بن سعيد  ، فلما اقترب منهم تفرقوا عنه ودخل كثير منهم في الإسلام ، وبعث إلى الصديق  يعلمه بما وقع من الفتح ، فأمره الصديق  أن يتقدم ولا يحجم ، وأمده بالوليد بن عقبة وعكرمة بن أبي جهل  ، وجماعة ، فسار إلى قريب من آبل  ، فالتقى هو وأمير من الروم   [ ص: 545 ] يقال له : باهان    . فكسره ، ولجأ باهان  إلى دمشق  ، فلحقه خالد بن سعيد  ، وبادر الجيوش إلى نحو دمشق  وطلب الحظوة ، فوصلوا إلى مرج الصفر  فانطوت عليه مسالح باهان  ، وأخذوا عليهم الطريق ، وزحف باهان  ، ففر خالد بن سعيد  ، فلم يرد إلى ذي المروة  ، واستحوذ الروم  على جيشهم إلا من فر على الخيل ، وثبت  عكرمة بن أبي جهل  ، وقد تقهقر عن الشام  قريبا ، وبقي ردءا لمن نفر إليه ، وأقبل شرحبيل ابن حسنة  من  العراق    ; من عند خالد بن الوليد  إلى الصديق  ، فأمره على جيش وبعثه إلى الشام  فلما مر بخالد بن سعيد  بذي المروة  ، أخذ جمهور أصحابه الذين هربوا معه إلى ذي المروة  ، ثم اجتمع عند الصديق  طائفة من الناس ، فأمر عليهم  معاوية بن أبي سفيان  ، وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان  ، ولما مر بخالد بن سعيد  أخذ من كان بقي معه بذي المروة  إلى الشام  ، ثم أذن الصديق   لخالد بن سعيد  في الدخول إلى المدينة  وقال : كان عمر  أعلم بخالد    . 
 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					