[ ص: 300 ] المسألة الثالثة 
ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص  عند الأكثرين ، بل الأول باق على عمومه . قال القفال    : فصار الخاص كأنه ورد فيه خبران : خبر يشمله ويشمل غيره ، وخبر يخصه ، خلافا  لأبي ثور  ، فإنه خصص الدباغ بالمأكول ، لأجل قوله : { أيما إهاب دبغ فقد طهر   } ، مع إفراده ذكر الشاة في حديث ميمونة  ، وقوله في قصة المجامع في رمضان ، مع قوله : { من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر   } ، إن صح الخبر . ونقله عبد الوهاب  في الملخص عن الأكثرين من فقهاء الشافعية ، فأما مذهبنا فيحتمل أن يتخرج فيه الخلاف ، إلا أن أجوبتهم تطرد على الأول . قال : ومثاله قوله لخولة  في دم الحيض : ( اغسليه ) ، وفي حديث  عمار    : { إنما يغسل الثوب من المني والبول والدم   } وحديث  أسماء    : { حتيه ، ثم اقرضيه ، ثم اغسليه بالماء   } ، فذكر الماء وهو بعض ما دخل في اللفظ الأول . وقوله : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا   } ، وقال في خبر آخر : { وترابها طهورا   } ، والتراب بعض الأرض . وقوله : { الطعام مثلا بمثل   } ، وقال في خبر آخر : { البر بالبر   } فاختلفت أجوبة أصحابنا في هذه الأمثلة على المذهب جميعا . انتهى .  [ ص: 301 ] وقال صاحب المصدر : إنما قال  أبو ثور  في قوله تعالى : { وللمطلقات متاع    } وقوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن    } فأثبت المتعة للمطلقة التي هذه سبيلها ، فيجب أن يكون هذا هو المراد بالأول وأن لا يثبت لغير المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها ، والصحيح خلافه ، لأنه إنما يصار إلى التخصيص حيث التنافي . انتهى . وقد حكى أبو الحسين بن القطان  قولين  للشافعي  في هذه الآية ، وسيأتي في التخصيص بالمفهوم ، وقضيته جريان قول  الشافعي  كمذهب  أبي ثور    . 
وقد احتج الجمهور في عدم التخصيص بأن المخصص مناف ذكر الحكم في بعض الأفراد ليس بمناف ، فذكر الحكم ليس بمخصص . واعترض بمنع المقدمة الثانية ، وهي أن ذكر الحكم في بعض الأفراد ليس بمناف بناء على قاعدة المفهوم ، وفرق بين منافاة الحكم وبين منافاة الذكر ، فثبوت الحكم في بعض الأفراد ليس بمناف لثبوته في غيرها    . وأما الذكر فلا نسلم عدم منافاته لأصل المفهوم الدال على نفي الحكم عما عداه . وهذا الاعتراض إنما يتأتى في ذكر الحكم في بعض الأفراد ، فتخصيصه بما له مفهوم مخالفة عند القائلين به كالصفة مثلا ولا يجيء في ذكر الحكم في بعض الأفراد بذكر ما لا مفهوم له كاللقب ، والذين أوردوا هذه المسألة أوردوها عامة ومن الناس من أنكر الخلاف في هذه المسألة ، وقال : لما كان  أبو ثور  ممن يقول بمفهوم اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص ، وليس كذلك . ولعل  أبا ثور  يقول : إن هذه الصورة لا يجوز تخصيصها من العام ، وتصير قطعية لمحل السبب على ما سبق ، ولا ينبغي أن يقع فيه خلاف . فإن قلت : فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا الخاص مع دخوله في العام ؟  [ ص: 302 ] 
قلت    : يجوز أن تكون فائدته عدم التخصيص ، أو التفخيم والمزية على بقية الأفراد ، أو اختصاصه بضرب من التأكيد ، إن جدت واقعة بعد ورود العام . وقد يرجع مذهب  أبي ثور  من جهة أنه يجوز استعمال العام وإرادة الخاص ، فيجوز أن يكون ذلك العام أريد به الخاص والقرينة فيه الإفراد . ولكنه خلاف الأصل . وهنا تنبيهات 
الأول : قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد    : لا ينبغي أن يكتفى في تقرير هذه الفائدة ونسبة هذا المذهب  لأبي ثور  بهذا الحال ، لأن استنتاج الكليات من الجزئيات يعتمد كونها . . . الخصوصيات ، ويوجد القدر المشترك . وأما الفرد المعين فيحتمل أن يكون الحكم فيه لأمر يختصه . بيانه أن يعتقد  أبو ثور  أن الأصل عدم طهارة الجلد بالدباغ ، ويعتقد أن المأكول يختص بمعنى يناسب التطهير أو التخفيف فيجعل ذلك قرينة في تخصيص العموم ، كما جعل أصحاب  الشافعي  عدم اعتبار دباغ جلد الكلب قرينة تخص هذا العموم ، أو يمنع تطهير جلد ما لا يؤكل لحمه بنهي النبي عليه السلام عن افتراش جلود السباع كما استدل به بعضهم لهذا المذهب . 
والمقصود : أنه إن كان  أبو ثور  نص على القاعدة فذاك ، وإن كان أخذ بطريق الاستنباط من مذهبه في هذه المسألة فلا يدل على ذلك . 
قلت    : وبذلك صرح  أبو ثور  في كتابه ، فقد حكى عنه  أبو عمر بن عبد البر  في التمهيد أنه إنما صار إلى تخصيص الدباغ بالمأكول لأجل قوله عليه السلام في جلد الشاة : { هلا دبغتموه   } وقال في حديث آخر : { نهى عن جلود السباع   } قال  أبو ثور    : فلما روي الخبران أخذنا بهما جميعا ، لأنه لا تناقض فيهما . انتهى .  [ ص: 303 ] ويقال له : هذان الخبران كل واحد منهما عام من وجه ، خاص من وجه . فإن خبر السباع عام في جلود السباع قبل الدباغ وبعده ، وخاص بالسباع . 
وحديث { أيما إهاب دبغ   } ، عام في كليهما ، وخاص بالدباغ ، ويتأكد في مثله الترجيح بأمره خارج . 
الثاني : أن صورة المسألة أن يكون الخاص مفهومه موافقا . فإن كان مفهوم مخالفة مثل : خبر القلتين ، وسائمة الغنم ، بالنسبة إلى قوله : { لا ينجسه شيء   } وقوله : { في أربعين شاة شاة   } ونحوه ، فهذه مسألة تخصيص العموم بالمفهوم  ، وستأتي . 
وبذلك صرح  القاضي أبو الطيب الطبري    . فقال : فأما إذا كان للخاص ، دليل خطاب ، فإنه يخص به العموم ، فيخرج منه ما تناوله دليله ، كقوله : { في أربعين شاة شاة   } مع قوله : { في سائمة الغنم زكاة   } ، فتخرج المعلوفة من قوله : { في أربعين شاة شاة   } . فالمفهوم كالمنطوق في وجوب العمل به ، واللفظ الخاص يقضى به على العام ، فكذلك هاهنا . وكذلك قوله : { إذا بلغ الماء قلتين لا ينجسه شيء   } ، مع قوله : { الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيره   } .  [ ص: 304 ] 
وقال الشيخ  في " شرح الإلمام " : ينبغي أن يقيد محل الخلاف بالتخصيص بما ليس له مفهوم ، كاللقب ، فأما ما له مفهوم كالصفات ، فعلى القول بالمفهوم أجازوا تخصيص العموم به . 
قلت    : وبه صرح  القفال الشاشي  في كتابه ، فقال بعد قوله : إن ذلك لا يخصص أما إذا كان إفراد المخصوص بالذكر على معنى نفي مشاركة غيره إياه كما روي : { في سائمة الغنم زكاة   } ، وروي : { في أربعين شاة شاة   } ، فذكر السوم عند أصحابنا يدل على نفي الزكاة فيما ليست بسائمة ، وكأنه قيل : لا زكاة إلا في السائمة ، فإن لم يقم دليل على أن إفراده بالذكر على معنى مخالفة المسكوت عنه له في حكمه فإنه لا يجعل مخصصا للعموم ، لأن ذلك العموم يشتمل عليه وعلى غيره . 
قال : ولولا قيام الدليل على أن قوله : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا   } على أنه تحديد لدخل في جملة قوله : { الماء طهور لا ينجسه شيء   } . انتهى . وكذا قال  القاضي عبد الوهاب  في الملخص : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور إذا عري اللفظ الخاص من وجود الأدلة التي تقتضي المنافاة سوى خصوصه في ذلك المسمى ، فإن كان معه ما يقتضي ذلك فلا خلاف في أنه يخص العموم إلا في المواضع التي يختلف فيها ، مثل أن يكون الحكم  [ ص: 305 ] فيها متعلقا بصفة ، فيدل على ما عداه بخلافه عند القائلين بدليل الخطاب ، أو أن يكون فيه تعليل يوجد في بعض ما دخل تحت العموم ، فإذا عري من ذلك ففيه الخلاف . 
				
						
						
