[ من تصدر للفتوى من غير أهلها أثم ] الفائدة الثالثة والثلاثون : من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى  فهو آثم عاص ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا . 
قال أبو الفرج بن الجوزي  رحمه الله : ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية  ،  [ ص: 167 ] وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب ، وليس له علم بالطريق ، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم ، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى ، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ، ولم يتفقه في الدين ؟ . 
وكان شيخنا  رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء ، فسمعته يقول : قال لي بعض هؤلاء : أجعلت محتسبا على الفتوى ؟ فقلت له : يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب ؟ وقد روى  الإمام أحمد   وابن ماجه  عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا : { من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه   } وفي الصحيحين من حديث  عبد الله بن عمرو بن العاص  رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ; فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا   } وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج  وغيره : { من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض   } . 
وكان  مالك  رحمه الله يقول : من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار ، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ، ثم يجيب فيها . 
وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل له : إنها مسألة خفيفة سهلة ، فغضب ، وقال : ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله عز وجل : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا    } فالعلم كله ثقيل ، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة وقال : ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك ، وقال : لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه ، وما أفتيت حتى سألت ربيعة  ويحيى بن سعيد  ، فأمراني بذلك ، ولو نهياني انتهيت ، قال : وإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ، ولا يجيب أحد منهم عن مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق والطهارة ، فكيف بنا الذين غطت الذنوب والخطايا قلوبنا ؟ وكان رحمه الله إذا سئل عن مسألة فكأنه واقف بين الجنة والنار . 
وقال  عطاء بن أبي رباح    : أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وإنه ليرعد . 
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم {   : أي البلاد شر ؟ فقال : لا أدري حتى أسأل جبريل  فسأله فقال : أسواقها   } وقال  الإمام أحمد    : من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم ، إلا أنه قد تلجئ الضرورة . 
وسئل الشعبي  عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقيل له : ألا تستحيي من قولك لا  [ ص: 168 ] أدري وأنت فقيه أهل العراق  ؟ فقال : لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا : { لا علم لنا إلا ما علمتنا    } . 
وقال بعض أهل العلم : تعلم لا أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري ، وإن قلت : أدري سألوك حتى لا تدري . 
وقال عتبة بن مسلم    : صحبت  ابن عمر  أربعة وثلاثين شهرا ، فكان كثيرا ما يسأل فيقول : لا أدري . 
وكان  سعيد بن المسيب  لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئا إلا قال : اللهم سلمني وسلم مني . 
وسئل  الشافعي  عن مسألة ، فسكت ، فقيل : ألا تجيب ؟ فقال : حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب ، وقال  ابن أبي ليلى    : أدركت مائة وعشرين من الأنصار  من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه . 
وقال أبو الحسين الأزدي    : إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على  عمر بن الخطاب  لجمع لها أهل بدر    . 
وسئل القاسم بن محمد  عن شيء ، فقال : إني لا أحسنه ، فقال له السائل : إني جئتك لا أعرف غيرك ، فقال له القاسم    : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي ، والله ما أحسنه ، فقال شيخ من قريش  جالس إلى جنبه : يا ابن أخي الزمها ، فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم ، فقال القاسم    : والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به . 
وكتب سلمان  إلى  أبي الدرداء  رضي الله عنهما وكان بينهما مؤاخاة : بلغني أنك قعدت طبيبا فاحذر أن تكون متطببا أو تقتل مسلما ، فكان ربما جاءه الخصمان فيحكم بينهما ثم يقول : ردوهما علي ، متطبب والله ، أعيدا علي قضيتكما . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					