فأما حال الأخبار من طريق الآحاد  فلا تخلو من ثلاثة أمور : إما أن يكون صحبها عمل أهل المدينة  مطابقا لها ، أو أن يكون عملهم بخلافها ، أو أن لا يكون منهم عمل أصلا لا بخلاف ولا بوفاق ; فإن كان عملهم موافقا لها كان ذلك آكد في صحتها ووجوب العمل بها ، إذا كان العمل من طريق النقل ، وإن كان من طريق الاجتهاد كان مرجحا للخبر على ما ذكرنا من الخلاف ، وإن كان عملهم بخلافه نظر : فإن كان العمل المذكور على الصفة التي ذكرناها فإن الخبر يترك للعمل عندنا ، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، وهذا أكبر الغرض بالكلام في هذه المسألة ، وهذا كما نقوله في الصاع والمد وزكاة الخضراوات وغير ذلك . 
وإن كان العمل منهم اجتهادا فالخبر أولى منه عند جمهور أصحابنا ، إلا من قال منهم : إن الإجماع من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يكن بالمدينة  عمل يوافق موجب الخبر أو يخالفه فالواجب المصير إلى الخبر ; فإنه دليل منفرد عن مسقط أو معارض . 
هذا جملة قول أصحابنا في هذه المسألة ، وقد تضمن ما حكاه أن عملهم الجاري مجرى النقل حجة ، فإذا أجمعوا عليه فهو مقدم على غيره من أخبار الآحاد ، وعلى هذا الحرف بنى المسألة وقررها ، وقال : والذي يدل على ما قلناه أنهم إذا أجمعوا على شيء نقلا أو عملا متصلا فإن ذلك الأمر معلوم بالنقل المتواتر الذي يحصل العلم به ، وينقطع العذر فيه ، ويجب ترك أخبار الآحاد له ; لأن المدينة  بلدة جمعت من الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا على نقله ، فما هذا سبيله إذا ورد خبر واحد بخلافه كان حجة على  [ ص: 284 ] ذلك الخبر وترك له ، كما لو روي لنا خبر واحد فيما تواتر به نقل جميع الأمة لوجب ترك الخبر للنقل المتواتر من جميعهم ، فيقال : من المحال عادة أن يجمعوا على شيء نقلا أو عملا متصلا من عندهم إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته ، هذا من أبين الباطل ; وإن وقع ذلك فيما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تضمن لاجتهادهم ، فلم يجمعوا من طريق النقل ولا العمل المستمر على هذه الشريطة على بطلان خيار المجلس ، ولا على التسليمة الواحدة ، ولا على القنوت في الفجر قبل الركوع ، ولا على ترك الرفع عند الركوع والرفع منه ، ولا على ترك السجود في المفصل ، ولا على ترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة ، ونظائر ذلك ، كيف وقدماؤهم الذين نقلوا العلم الصحيح الثابت الذي كأنه رأي عين عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلاف ذلك ؟ فكيف يقال : إن تركه عمل مستمر من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ؟ هذا من المحال ، بل نقلهم للصاع والمد والوقوف والأخاير وترك زكاة الخضراوات حق ، ولم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تخالفه ألبتة ، ولهذا رجع  أبو يوسف  إلى ذلك كله بحضرة الرشيد لما ناظره  مالك  وتبين له الحق ; فلا يلحق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد ، ويجعل ذلك نقلا متصلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتترك له السنن الثابتة ، فهذا لون وذلك لون ، وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب . 
ومن المعلوم أن العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة   كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق ، ولم تكن الرعية تخالف هؤلاء ، فإذا أفتى المفتون نفذه الوالي ، وعمل به المحتسب ، وصار عملا ، فهذا هو الذي لا يلتفت إليه في مخالفة السنن ، لا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والصحابة فذاك هو السنة ، فلا يخلط أحدهما بالآخر ، فنحن لهذا العمل أشد تحكيما ، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركا ، وبالله التوفيق . 
وقد كان  ربيعة بن أبي عبد الرحمن  يفتي  وسليمان بن بلال  المحتسب ينفذ فتواه فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا ، كما يطرد العمل في بلد أو إقليم ليس فيه إلا قول  مالك  على قوله وفتواه ، ولا يجوزون العمل هناك بقول غيره من أئمة الإسلام ، فلو عمل به أحد لاشتد نكيرهم عليه ، وكذلك كل بلد أو إقليم لم يظهر فيه إلا مذهب  أبي حنيفة  فإن العمل المستمر عندهم على قوله ، وكل طائفة اطرد عندهم عمل من وصل إليهم قوله ومذهبه ولم يألفوا غيره . ولا فرق في هذا العمل بين بلد وبلد ، والعمل الصحيح ما وافق السنة . وإذا أردت وضوح ذلك فانظر العمل في زمن أمير المؤمنين  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  [ ص: 285 ] في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة به ، ثم العمل في زمن  مالك  بوصل التكبير بالقراءة من غير استفتاح ولا تعوذ . وانظر العمل في زمن الصحابة  كعبد الله بن عمر  في اعتبار خيار المجلس ومفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد ولا يخالفه في ذلك صحابي ، ثم العمل به في زمن التابعين وإمامهم وعالمهم  سعيد بن المسيب  يعمل به ويفتي به ولا ينكره عليه منكر ، ثم صار العمل في زمن ربيعة   وسليمان بن بلال  بخلاف ذلك . 
وانظر إلى العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة خلفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع والرفع منه ، ثم العمل في زمن الصحابة بعده حتى كان  عبد الله بن عمر  إذا رأى من لا يرفع يديه حصبه ، وهو عمل كأنه رأي عين ، وجمهور التابعين يعمل به بالمدينة  وغيرها من الأمصار كما حكاه  البخاري   ومحمد بن نصر المروزي  وغيرهما عنهم ، ثم صار العمل بخلافه . وانظر إلى العمل الذي كأنه رأي عين من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء   سهيل  وأخيه في المسجد والصحابة معه ، وصلت عائشة  على  سعد بن أبي وقاص  في المسجد ، وصلى على  عمر بن الخطاب  في المسجد ، ذكره  مالك  عن  نافع  عن عبد الله    . 
قال  الشافعي    : ولا نرى أحدا من الصحابة حضر موته فتخلف عن جنازته ، فهذا عمل مجمع عليه عندكم ، قاله لبعض المالكية ، وروى هشام  عن أبيه أن  أبا بكر  صلى عليه في المسجد ، فهذا العمل حق ، ولو تركت السنن للعمل لتعطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرست رسومها وعفت آثارها ، وكم من عمل قد اطرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن ، وكل وقت تترك سنة ويعمل بخلافها ويستمر عليها العمل فتجد يسيرا من السنة معمولا به على نوع تقصير . وخذ بلا حساب ما شاء الله من سنن قد أهملت وعطل العمل بها جملة ; فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس : تركت السنة ; فقد تقرر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل ألبتة ، وإنما يقع من طريق الاجتهاد ، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودا ، وكل عمل طريقه النقل فإنه لا يخالف سنة صحيحة ألبتة . 
				
						
						
