ذكر مكاتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملوك  
وفيها بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسل إلى   كسرى  وقيصر   والنجاشي  وغيرهم ، وأرسل   حاطب بن أبي بلتعة  إلى  المقوقس  بمصر  ، وأرسل  شجاع بن وهب الأسدي  إلى  الحارث بن أبي شمر الغساني  ، وأرسل  دحية  إلى قيصر ، وأرسل  سليط بن عمرو العامري  إلى  هوذة بن علي الحنفي  ، وبعث   عبد الله بن حذافة  إلى   كسرى  ، وأرسل   عمرو بن أمية الضمري  إلى   النجاشي  ، وأرسل   العلاء بن الحضرمي  إلى  المنذر بن ساوى  أخي عبد القيس  ، وقيل : إن إرساله كان سنة ثمان . والله أعلم . 
وأما  المقوقس  فإنه قبل كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم    - وأهدى إليه أربع جوار ، منهن مارية  أم  إبراهيم ابن رسول الله     - صلى الله عليه وسلم - . 
 [ ص: 92 ] وأما قيصر ، وهو  هرقل  ، فإنه قبل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم    - وجعله بين فخذيه وخاصرته ، وكتب إلى رجل برومية  كان يقرأ الكتب يخبره شأنه ، فكتب إليه صاحب رومية    : إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه ، فاتبعه وصدقه . فجمع  هرقل  بطارقة الروم  في الدسكرة ، وغلقت أبوابها ، ثم اطلع عليهم من علية ، وخافهم على نفسه ، وقال لهم : قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه ، وإنه والله النبي الذي نجده في كتابنا ، فهلم فلنتبعه ونصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا . فنخروا نخرة رجل واحد ، ثم ابتدروا الأبواب ليخرجوا ، فقال : ردوهم علي ، وخافهم على نفسه ، وقال لهم : إنما قلت لكم ما قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم ، وقد رأيت منكم ما سرني ، فسجدوا له . وانطلق وقال  لدحية     : إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل ، ولكني أخاف الروم  على نفسي ، ولولا ذلك لاتبعته ، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف الأعظم في الروم ، واذكر له أمر صاحبك ، وانظر ما يقول لك . 
فجاء  دحية  وأخبره بما جاء به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له  ضغاطر     : والله إن صاحبك نبي مرسل ، نعرفه بصفته ، ونجده في كتابنا . ثم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة ، فقال : يا معشر الروم  ، قد جاءنا كتاب من أحمد  يدعونا إلى الله ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا  عبده ورسوله . قال : فوثبوا عليه فقتلوه . 
فرجع  دحية  إلى  هرقل  وأخبره الخبر . قال : قد قلت : إنا نخافهم على أنفسنا . وقال قيصر للروم    : هلموا نعطيه الجزية ، فأبوا ، فقال : نعطيه أرض سورية  ، وهي الشام  ، ونصالحه ، فأبوا ، واستدعى  هرقل  أبا سفيان  ، وكان بالشام  تاجرا إلى الشام  في الهدنة ، فحضر عنده ومعه جماعة من قريش  أجلسهم  هرقل  خلفه ، وقال : إني سائله ، فإن كذب فكذبوه . فقال  أبو سفيان     : لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت ، فسأله عن النبي ، قال : فصغرت له شأنه ، فلم يلتفت إلى قولي وقال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو أوسطنا نسبا . قال : هل كان من أهل بيته من يقول مثل قوله ؟ قلت : لا . قال : فهل له فيكم ملك سلبتموه إياه ؟ قلت : لا . قال : فمن اتبعه منكم ؟ قلت : الضعفاء والمساكين والأحداث . قال : فهل يحبه من يتبعه ويلزمه ، أو يقليه ويفارقه ؟ قلت : ما تبعه رجل ففارقه . قال : فكيف الحرب بينكم وبينه ؟ قلت : سجال ، يدال علينا ، وندال عليه . قال : هل يغدر ؟   [ ص: 93 ] قال : فلم أجد شيئا أغمز به غيرها ، قلت : لا ، ونحن منه في هدنة ، ولا نأمن غدره . قال : فما التفت إليها . 
قال  أبو سفيان     : فقال لي  هرقل     : سألتك عن نسبه ، فزعمت أنه من أوسط الناس ، وكذلك الأنبياء ، وسألتك هل قال أحد من أهل بيته مثل قوله ، فهو متشبه به ، فزعمت أن لا ، وسألتك هل سلبتموه ملكه فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه ، فزعمت أن لا ، وسألتك عن أتباعه ، فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين ، وكذلك أتباع الرسل ، وسألتك عمن يتبعه أيحبه أم يفارقه ، فزعمت أنهم يحبونه ولا يفارقونه ، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه ، وسألتك هل يغدر ، فزعمت أن لا ، ولئن صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين ، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه . انطلق لشأنك . 
قال : فخرجت وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأقول : أي عباد الله ، لقد أمر أمر   ابن أبي كبشة  ، أصبح ملوك الروم  يهابونه في سلطانهم . 
قال : وقدم عليه  دحية  بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد  رسول الله إلى  هرقل  عظيم الروم  ، السلام على من اتبع الهدى ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن إثم الأكارين عليك   . 
وأما  الحارث بن أبي شمر الغساني  ، فأتاه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع  شجاع بن وهب  ،  فلما قرأه قال : أنا سائر إليه ، فلما بلغ قوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : باد ملكه   . 
وأما   النجاشي  ، فإنه لما جاءه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - آمن به واتبعه  ، وأسلم على يد   جعفر بن أبي طالب  ، وأرسل إليه ابنه في ستين من الحبشة  ، فغرقوا في البحر ، وأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليزوجه  أم حبيبة بنت أبي سفيان  ، وكانت مهاجرة بالحبشة  مع زوجها  عبيد الله بن جحش  ، فتنصر وتوفي بالحبشة  ، فخطبها   النجاشي  إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابت ، وزوجها ، وأصدقها   النجاشي  أربعمائة دينار ، فلما سمع  أبو سفيان  تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة  قال : ذاك الفحل لا يقدع أنفه . 
 [ ص: 94 ] وأما   كسرى  فجاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع   عبد الله بن حذافة  ، فمزق الكتاب  ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : مزق ملكه . وكان كتابه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد  رسول الله إلى   كسرى  عظيم فارس  ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا  عبده ورسوله ، وإني أدعوك بدعاء الله ، وإني رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين  ، فأسلم تسلم ، وإن توليت فإن إثم المجوس عليك   . 
فلما قرأه شقه ، قال : يكتب إلي بهذا وهو عبدي ! ثم كتب إلى  باذان  وهو باليمن    : أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز  رجلين من عندك جلدين ، فليأتياني به . فبعث  باذان  نابوه  ، وكان كاتبا حاسبا ، ورجلا آخر من الفرس يقال له :  خرخسره  ، وكتب معهما يأمره بالمسير معهما إلى   كسرى  ، وتقدم إلى  نابوه  أن يأتيه بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت قريش  بذلك ففرحوا ، وقالوا : أبشروا ، فقد نصب له   كسرى  ملك الملوك ، كفيتم الرجل . 
فخرجا حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حلقا لحاهما ، وأعفيا شواربهما ، فكره النظر إليهما وقال : ويلكما ، من أمركما بهذا ؟ قالا : ربنا - يعنيان الملك . فقال : لكن ربي أمرني أن أعفي لحيتي ، وأقص شاربي ، فأعلماه بما قدما له وقالا : إن فعلت كتب  باذان  فيك إلى   كسرى  ، وإن أبيت فهو يهلكك ويهلك قومك . فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ارجعا حتى تأتياني غدا . وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء : إن الله قد سلط على   كسرى  ابنه  شيرويه  فقتله ، فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرهما بقتل   كسرى  ، وقال لهما : إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك   كسرى  ، وينتهي منتهى الخف والحافر ، وأمرهما أن يقولا  لباذان     : أسلم ، فإن أسلم أقره على ما تحت يده ، وأملكه على قومه . ثم أعطى  خرخسره  منطقة ذهب وفضة أهداها له بعض الملوك   . 
وخرجا فقدما على  باذان  وأخبراه الخبر ، فقال : والله ما هذا كلام ملك ، وإني لأراه نبيا ، ولننظرن ، فإن كان ما قال حقا ، فإنه لنبي مرسل ، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا . فلم   [ ص: 95 ] يلبث  باذان  أن قدم عليه كتاب  شيرويه  يخبره بقتل   كسرى  ، وأنه قتله غضبا للفرس لما استحل من قتل أشرافهم ، ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن  ، وبالكف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلما أتاه كتاب  شيرويه  أسلم ، وأسلم معه أبناء من فارس    . وكانت حمير  تسمي  خرخسره  صاحب المعجزة ، والمعجزة بلغة حمير  المنطقة . 
وأما  هوذة بن علي  فكان ملك اليمامة  ، فلما أتاه  سليط بن عمرو  يدعوه إلى الإسلام ، وكان نصرانيا ، أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفدا فيهم  مجاعة بن مرارة  والرجال بن عنفوة  ، يقول له : إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره ، وإلا قصد حربه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا ، ولا كرامة ، اللهم اكفنيه ! فمات بعد قليل   . 
وأما  مجاعة  والرجال  فأسلما ، وأقام  الرجال  عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قرأ سورة البقرة وغيرها ، وتفقه وعاد إلى اليمامة  ، فارتد وشهد أن رسول الله أشرك  مسيلمة  معه ، فكانت فتنته أشد من فتنة  مسيلمة     . 
(  مجاعة  بضم الميم وتشديد الجيم .  والرجال  بالجيم المشددة ، وقيل بالحاء المهملة المشددة . وعنفوة بضم العين ، وسكون النون ، وضم الفاء ، وفتح الواو ) . 
وأما  المنذر بن ساوى  والي البحرين   ، فلما أتاه   العلاء بن الحضرمي  يدعوه ومن معه بالبحرين  إلى الإسلام أو الجزية ، وكانت ولاية البحرين  للفرس  ، فأسلم  المنذر بن ساوى  ، وأسلم جميع العرب بالبحرين    . 
فأما أهل البلاد من اليهود  والنصارى  والمجوس  فإنهم صالحوا  العلاء  والمنذر  على الجزية من كل حالم دينار ، ولم يكن بالبحرين  قتال ، إنما بعضهم أسلم ، وبعضهم صالح . 
وولي الحج في هذه السنة المشركون . 
وفي هذه السنة ماتت أم رومان  ، وهي أم عائشة  زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					