فصل منزلة الرعاية  
ومن منازل : (  إياك نعبد وإياك نستعين      )  منزلة الرعاية .  
 وهي مراعاة العلم وحفظه بالعمل . ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص . وحفظه من المفسدات . ومراعاة الحال بالموافقة . وحفظه بقطع التفريق . فالرعاية صيانة وحفظ .  
ومراتب العلم والعمل   ثلاثة : رواية : وهي مجرد النقل وحمل المروي . ودراية : وهي فهمه وتعقل معناه . و رعاية : وهي العمل بموجب ما علمه ومقتضاه .  
فالنقلة همتهم الرواية . والعلماء همتهم الدراية . والعارفون همتهم الرعاية . وقد ذم الله من لم يرع ما اختاره وابتدعه من الرهبانية حق رعايته . فقال تعالى : (  وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها      ) .  
" رهبانية " منصوب ب " ابتدعوها " على الاشتغال . إما بنفس الفعل المذكور - على قول  الكوفيين      - وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور - على قول  البصريين      - أي : وابتدعوا رهبانية . وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه .  
فالوقوف التام عند قوله : (  ورحمة      ) ثم يبتدئ : (  ورهبانية ابتدعوها      ) أي : لم نشرعها لهم . بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ، ولم نكتبها عليهم .  
وفي نصب قوله : (  إلا ابتغاء رضوان الله      ) ثلاثة أوجه .  
 [ ص: 61 ] أحدها : أنه مفعول له ، أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وهذا فاسد . فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه . كيف وقد أخبر : أنهم هم ابتدعوها . فهي مبتدعة غير مكتوبة . وأيضا فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه . فيتحد السبب والغاية . نحو : قمت إكراما . فالقائم هو المكرم . وفعل الفاعل المعلل هاهنا هو الكتابة و "  ابتغاء رضوان الله      " فعلهم ، لا فعل الله . فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله . لاختلاف الفاعل .  
وقيل : بدل من مفعول " كتبناها " ؛ أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله .  
وهو فاسد أيضا ؛ إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية ، فتكون بدل الشيء من الشيء . ولا بعضها ، فتكون بدل بعض من كل . ولا أحدهما مشتمل على الآخر . فتكون بدل اشتمال . وليس بدل غلط .  
فالصواب أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع . أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله . ودل على هذا قوله " ابتدعوها " ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية ، وأنه هو طلب الرضوان . ثم ذمهم بترك رعايتها ؛ إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه . حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة حكمه بإتمامها . وجعلوا التزامها بالشروع كالتزامها بالنذر . كما قال  أبو حنيفة  و  مالك  و  أحمد  في إحدى الروايتين عنه وهو إجماع - أو كالإجماع - في أحد النسكين .  
قالوا : والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول . فكما يجب عليه ما التزمه بالنذر وفاء ، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما .  
وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة .  
والقصد : أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها ؛ فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده ، وأذن بها وحث عليها ؟ !  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					