( فصل ) . 
إذا تبين هذا فيقال : قول الرافضة  من أفسد الأقوال وأشدها تناقضا ; فإنهم يعظمون الأمر على من قاتل  عليا  ، ويمدحون من قتل  عثمان   ، مع أن الذم والإثم لمن قتل  عثمان  أعظم من الذم والإثم لمن قاتل  عليا  ، فإن  عثمان   [ ص: 459 ] كان خليفة اجتمع الناس عليه ، ولم يقتل [1]  . 
1 مسلما ، وقد قاتلوه لينخلع من [2] 
الأمر ، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر  علي  في طلبه لطاعتهم [3] 
له ، وصبر  عثمان  حتى قتل مظلوما شهيدا من غير أن يدفع عن نفسه ،  وعلي  بدأ بالقتال 
[4] أصحاب  معاوية  ، ولم يكونوا يقاتلونه ، ولكن امتنعوا من بيعته . 
فإن جاز قتال من امتنع عن بيعة الإمام الذي بايعه نصف المسلمين ، أو أكثرهم [ أو نحو ذلك ] 
[5] ، فقتال من قاتل [6] وفي سائر النسخ : فيقال من قاتل . 
وقتل الإمام الذي أجمع [7] 
المسلمون على بيعته أولى بالجواز . 
وإن قيل : إن  عثمان  فعل أشياء أنكروها . 
قيل : تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله [8] 
، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على  علي  أولى أن يبيح ترك مبايعته ; فإنهم إن ادعوا على  عثمان  نوعا من المحاباة لبني أمية  فقد ادعوا [9] 
على  علي  تحاملا عليهم وتركا لإنصافهم ، وأنه بادر بعزل  معاوية  ، ولم يكن ليستحق 
[10] العزل ; فإن النبي  [ ص: 460 ]  - صلى الله عليه وسلم - ولى أباه  أبا سفيان  على نجران  ، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمير عليها 
[11] ، وكان كثير من أمراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال من بني أمية   ; فإنه استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية  ، واستعمل  خالد بن سعيد بن العاص بن أمية  على صدقات مذحج  وصنعاء اليمن  ، ولم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستعمل  عمرا  على تيماء   [ وخيبر  وقرى عرينة   ] [12] 
 وأبان بن سعيد بن العاص   [ استعمله أيضا على البحرين  برها وبحرها حين عزل  العلاء بن الحضرمي  ، فلم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسله قبل ذلك أميرا على سرايا منها سرية إلىنجد   ] 
[13] وولاه  عمر   - رضي الله عنه - ، ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته . [ وقد ثبت ] في الصحيح 
[14] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم . وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم  " 
[15]  . 
 [ ص: 461 ] قالوا :  ومعاوية  كانت رعيته تحبه وهو يحبهم [16] 
، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم . [ وقد ثبت ] في الصحيح 
[17] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم  " [18] 
. قال مالك بن يخامر   : سمعت معاذا يقول : " وهم بالشام " قالوا : " وهؤلاء كانوا عسكر  معاوية   " . 
وفي صحيح  مسلم  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة  "   [19] قال  أحمد بن حنبل  
[20] أهل  [ ص: 462 ] الغرب هم أهل الشام    . وقد بسطنا هذا في موضع آخر ، وهذا [ النص ] 
[21] يتناول عسكر  معاوية   . 
قالوا :  ومعاوية  أيضا 
[22] كان خيرا من كثير ممن استنابه  علي  ، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة ، فإن  عليا  استناب  زياد بن أبيه  ، وقد أشاروا 
[23] على علي بتولية  معاوية   . [ قالوا : يا أمير المؤمنين توليه شهرا واعزله دهرا ] 
[24]  . ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة ، إما لاستحقاقه وإما لتأليفه 
[25] واستعطافه ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من  علي  ، وولى  أبا سفيان  ،  ومعاوية  خير منه ، فولى من هو خير من علي من هو دون  معاوية   . 
فإذا قيل : إن  عليا  كان مجتهدا في ذلك . 
قيل :  وعثمان  كان مجتهدا فيما فعل . وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية [ أو إمارة ] 
[26] أو مال ، من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض ، حتى ذل المؤمنون وعجزوا عن مقاومة الكفار ، حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم ؟ ولا ريب أنه لو لم يكن قتال ، بل كان  معاوية  مقيما على سياسة رعيته ،  وعلي  مقيما 
[27] على سياسة رعيته ، لم يكن في ذلك  [ ص: 463 ] من الشر أعظم 
[28] مما حصل بالاقتتال ; فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام ، بل سفكت الدماء ، وقويت العداوة والبغضاء ، وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق ، وهي طائفة علي ، وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما [ كانت ] 
[29] تلك تطلبه ابتداء . 
ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته ، يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه 
[30]  . وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة ، بل كان الأمر مع عدم القتال 
[31] خيرا وأصلح منه بعد القتال ، و [ كان ]  علي  وعسكره [ أكثر ] وأقوى 
[32] ،  ومعاوية  وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته 
[33] ومصالحته ، فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا لصاحبه ، فاجتهاد  عثمان  أن يكون مغفورا أولى وأحرى . 
وأما  معاوية  وأعوانه فيقولون : إنما قاتلنا  عليا  قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا ; فإنه بدأنا 
[34] بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه . فإذا قيل لهم : هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين . قالوا : ما نعلم أنه إمام تجب طاعته ؛ لأن ذلك عند الشيعة  إنما يعلم بالنص ، ولم يبلغنا عن النبي - صلى الله عليه  [ ص: 464 ] وسلم - نص بإمامته ووجوب طاعته . ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر ، فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق ، فإن هذا قد كتم وأخفي في زمن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فلم يجب أن يعلم  معاوية  وأصحابه مثل ذلك لو كان حقا ، فكيف إذا كان باطلا ؟ ! . 
وأما قوله : " الخلافة ثلاثون سنة " ونحو ذلك . فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك ; إنما هي من نقل الخاصة [ لا سيما ] 
[35] وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما . وإذا كان  عبد الملك بن مروان  خفي عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -  لعائشة   - رضي الله عنها - : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ، ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين  " 
[36] ونحو ذلك ، حتى هدم 
[37] ما فعله  ابن الزبير  ، ثم لما بلغه ذلك قال : وددت أني وليته من ذلك ما تولاه . مع أن حديث  عائشة   - رضي الله عنها - [ ثابت ] صحيح متفق على [ صحته ] عند أهل العلم 
[38] ، فلأن يخفى على  معاوية  وأصحابه قوله : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا  " بطريق الأولى ، مع أن هذا في أول خلافة  علي   - رضي الله عنه - لا يدل على علي عينا ، وإنما علمت دلالته على ذلك لما مات - رضي الله عنه - ، مع أنه ليس نصا في إثبات خليفة معين . 
 [ ص: 465 ] ومن جوز خليفتين 
[39] في وقت يقول : كلاهما خلافة نبوة ; فإن  معاوية   - رضي الله عنه - كان في أول خلافته محمودا عندهم أكثر مما كان في آخرها . وإن قيل : إن خلافة  علي  ثبتت بمبايعة أهل الشوكة ، كما ثبتت خلافة من كان قبله بذلك ، أوردوا على ذلك أن طلحة بايعه مكرها ، والذين بايعوه قاتلوه ، فلم تتفق 
[40] أهل الشوكة على طاعته . 
وأيضا فإنما تجب مبايعته كمبايعة من قبله إذا سار سيرة من قبله . وأولئك كانوا قادرين على دفع الظلم عمن يبايعهم ، وفاعلين لما يقدرون عليه من ذلك . وهؤلاء قالوا : إذا بايعناه كنا في ولايته مظلومين بولايته 
[41] مع الظلم الذي تقدم  لعثمان  ، وهو لا ينصفنا إما لعجزه عن ذلك ، وإما تأويلا منه ، وإما لما ينسبه إليه آخرون منهم ; فإن قتلة  عثمان  وحلفاءهم أعداؤنا ، وهم كثيرون في عسكره ، وهو عاجز عن دفعهم ، بدليل ما جرى يوم الجمل ; فإنه لما طلب طلحة   والزبير  الانتصار من قتلة  عثمان  ، قامت قبائلهم فقاتلوهم 
[42]  . 
ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة ، كما أشار به  علي  على  طلحة   والزبير  ، واتفقوا على ذلك . ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر ، فأثاروا الفتنة 
[43] وبدأوا بالحملة على عسكر  طلحة   والزبير  ، وقالوا  لعلي   : إنهم  [ ص: 466 ] حملوا قبل ذلك ، فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء [ دفعا عن نفسه ] ، ولم يكن  لعلي  [44] ولا  لطلحة   والزبير  غرض في القتال أصلا ، وإنما كان الشر 
[45] من قتلة  عثمان   . 
[ وإذا كان لا ينصفنا إما تأويلا منه وإما عجزا منه عن نصرتنا ، فليس علينا أن نبايع من نظلم بولايته لا لتأوليه ولا لعجزه ] 
[46]  . قالوا : والذين جوزوا قتالنا قالوا : إنا بغاة ، والبغي ظلم ، فإن كان مجرد الظلم مبيحا للقتال ، فلأن يكون مبيحا لترك المبايعة أولى وأحرى ، فإن القتال أعظم فسادا من ترك المبايعة بلا قتال . 
وإن قيل :  علي   - رضي الله عنه - لم يكن متعمدا لظلمهم ، بل كان مجتهدا في العدل لهم وعليهم . 
قالوا : وكذلك نحن لم نكن متعمدين للبغي ، بل مجتهدين في العدل له وعليه . وإذا كنا بغاة كنا بغاة للتأويل . والله تعالى لم يأمر بقتال الباغي ابتداء ، وليس مجرد البغي مبيحا للقتال ، بل قال تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما   ) سورة الحجرات فأمر بالإصلاح عند الاقتتال ، ثم قال : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله   ) وهذا بغي بعد الاقتتال ، فإنه بغي إحدى الطائفتين المقتتلتين لا بغي بدون الاقتتال ، فالبغي المجرد  [ ص: 467 ] لا يبيح القتال ، مع أن الذي في الحديث أن  عمارا  تقتله [47] 
الفئة الباغية ، قد تكون 
[48] الفئة التي باشرت قتله أ ، ن ، ص ، و ، ه : الفئة هي التي باشرت قتله . 
1 [ هم البغاة ] 
[49] لكونهم قاتلوا لغير حاجة إلى القتال أو لغير ذلك ، وقد تكون غير بغاة قبل القتال ، لكن لما اقتتلتا بغيتا ، وحينئذ قتل  عمارا  الفئة الباغية . فليس في الحديث ما يدل على أن البغي كان منا قبل القتال ، ولما بغينا كان عسكر  علي  متخاذلا لم يقاتلنا . ولهذا قالت  عائشة   - رضي الله عنها - : ترك الناس العمل بهذه الآية . 
وأما قوله : " إن  معاوية  قتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة " . 
فيقال : الذين قتلوا [ قتلوا ] 
[50] من الطائفتين ; قتل هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء . وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا  عليا  ولا  معاوية  ، وكان  علي   ومعاوية   - رضي الله عنهما - أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين ، لكن غلبا فيما وقع . والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء 
[51] عن إطفاء نارها ، وكان في العسكرين مثل  الأشتر النخعي  ، وهاشم بن عتبة [ المرقال   ] 
[52] وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد  ، وأبي الأعور السلمي  ، ونحوهم من المحرضين على القتال : قوم ينتصرون  لعثمان   [ ص: 468 ] غاية الانتصار ، وقوم ينفرون عنه ، [ وقوم ينتصرون  لعلي  ، وقوم ينفرون عنه ] 
[53]  . 
ثم قتال أصحاب  معاوية  معه لم يكن لخصوص  معاوية  ، بل كان لأسباب أخرى . وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم ، كما قال  الزهري   : " وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج 
[54] أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر : أنزلوهم منزلة الجاهلية  " . 
وأما ما ذكره من لعن  علي  ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ، وكان هؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم ، وهؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم . وقيل : إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى . والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان ، وهذا كله سواء كان ذنبا أو اجتهادا : مخطئا أو مصيبا ، فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك . 
ثم من العجب أن الرافضة  تنكر سب علي ، وهم يسبون  أبا بكر   وعمر   وعثمان  ويكفرونهم ومن والاهم   .  ومعاوية   - رضي الله عنه - وأصحابه ما كانوا يكفرون  عليا  ، وإنما يكفره الخوارج  المارقون ، والرافضة  شر منهم . فلو أنكرت الخوارج  السب لكان تناقضا منها ، فكيف إذا أنكرته الرافضة  ؟ ! . 
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة   : لا  علي  ولا  عثمان  ولا غيرهما ، ومن سب  أبا بكر   وعمر   وعثمان  فهو أعظم إثما ممن سب  عليا  ،  [ ص: 469 ] وإن كان متأولا فتأويله أفسد من تأويل من سب  عليا  ، وإن كان المتأول في سبهم ليس بمذموم لم يكن أصحاب  معاوية  مذمومين ، وإن كان مذموما كان ذم الشيعة  الذين سبوا الثلاثة أعظم من سب الناصبة  الذين سبوا  عليا  وحده . فعلى كل تقدير هؤلاء أبعد عن الحق . 
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه  " 
[55]  . 
وأما قوله : " إن  معاوية  سم  الحسن   " . 
فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم . وقد رأينا في زماننا من يقال عنه : إنه سم ومات مسموما من الملوك وغيرهم 
[56] ، ويختلف الناس في ذلك ، حتى في نفس الموضع الذي مات فيه ذلك الملك ، والقلعة التي مات فيها ، فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر ، ويقول : هذا سمه فلان ، وهذا يقول : بل سمه غيره 
[57] لأنه جرى كذا ، وهي واقعة في زمانك ، والذين كانوا في قلعته هم الذين يحدثونك . 
 والحسن   - رضي الله عنه - قد نقل عنه 
[58] أنه مات مسموما . وهذا مما يمكن  [ ص: 470 ] أن يعلم ، فإن موت المسموم لا يخفى ، لكن يقال : إن امرأته سمته . ولا ريب أنه مات بالمدينة   ومعاوية  بالشام  ، فغاية ما يظن الظان [ أن يقال ] : 
[59] إن  معاوية  أرسل إليها وأمرها بذلك . وقد يقال : بل سمته امرأته 
[60] لغرض آخر مما تفعله النساء ; فإنه كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة . 
وقد قيل [61]  : إن أباها  الأشعث بن قيس  أمرها بذلك 
[62]  ; فإنه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن علي   
[63] وابنه  الحسن   . 
وإذا قيل : إن  معاوية  أمر أباها ، كان هذا ظنا محضا . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : 
[64]  " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث   "   [65]  . 
وبالجملة فمثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين ، فلا يترتب  [ ص: 471 ] عليه أمر ظاهر : لا مدح ولا ذم ، والله أعلم . * ثم إن  الأشعث بن قيس  مات سنة أربعين ، وقيل : سنة إحدى وأربعين ، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين  معاوية   والحسن بن علي  ، في العام الذي كان يسمى عام الجماعة ، وهو عام أحد وأربعين 
[66] ، وكان الأشعث  حما 
[67] الحسن بن علي  ، فلو كان شاهدا لكان يكون له ذكر في ذلك ، وإذا كان قد مات قبل  الحسن  بنحو عشر سنين ، فكيف يكون هو الذي أمر ابنته أن تسم الحسن ؟ [68] 
والله سبحانه وتعالى أعلم * [69] بحقيقة الحال ، وهو يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون . فإن كان قد وقع شيء من ذلك فهو من باب قتال
[70] بعضهم بعضا [ كما تقدم ، وقتال المسلمين بعضهم بعضا ] 
[71] بتأويل ، وسب بعضهم بعضا بتأويل ، وتكفير بعضهم بعضا بتأويل : باب عظيم ، ومن لم يعلم حقيقة الواجب فيه وإلا 
[72] ضل . 
 [ ص: 472 ] وأما قوله : " وقتل ابنه يزيد  مولانا  الحسين  ونهب نساءه " . 
فيقال : إن يزيد  لم يأمر بقتل  الحسين  باتفاق أهل النقل ، ولكن كتب إلى ابن زياد  أن يمنعه عن ولاية العراق   .  والحسين   - رضي الله عنه - كان يظن أن أهل العراق   ينصرونه ويفون له 
[73] بما كتبوا إليه ، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل  ، فلما قتلوا مسلما  وغدروا به وبايعوا ابن زياد  ، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة ، فطلب 
[74] أن يذهب إلى يزيد  ، أو يذهب إلى الثغر  ، أو يرجع إلى بلده ، فلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر 
[75] لهم ، فامتنع ، فقاتلوه حتى قتل شهيدا مظلوما - رضي الله عنه - ، ولما بلغ ذلك يزيد  أظهر التوجع على ذلك ، وظهر 
[76] البكاء في داره ، ولم يسب له حريما أصلا ، بل أكرم أهل بيته ، وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم 
[77]  . 
ولو قدر أن يزيد  قتل  الحسين  لم يكن ذنب ابنه 
[78] ذنبا له ; فإن الله تعالى يقول : (           
[79] قصة معروفة ، لما حضه على  [ ص: 473 ] طلب الخلافة ، وامتناع 
[80] سعد من ذلك ، ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره . 
ففي صحيح  مسلم  عن  عامر بن سعد بن أبي وقاص  قال : كان  سعد بن أبي وقاص  في إبله ، فجاءه 
[81] ابنه  عمر  ، فلما رآه سعد  قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب . فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم ؟ فضرب سعد  في صدره فقال : اسكت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " 
[82]  . 
 ومحمد بن أبي بكر  يقال : إنه أعان على قتل  عثمان  ، وكان أبوه  أبو بكر   - رضي الله عنه - من أشد الناس تعظيما  لعثمان  ، فهل روى أحد من أهل السنة قدحا في  أبي بكر  لأجل فعل ابنه 
[83]  . 
وإذا قيل : إن معاوية   - رضي الله عنه - استخلف يزيد  ، وبسبب ولايته فعل هذا . 
قيل : استخلافه إن كان جائزا لم يضره ما فعل ، وإن لم يكن جائزا فذاك ذنب مستقل ولو لم يقتل  الحسين   . وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرام الحسين - رضي الله عنه - وصيانة حرمته ، فضلا عن دمه 
[84] ، فمع هذا القصد والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفساد . 
 [ ص: 474 ] وأما قوله : " وكسر أبوه ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأكلت أمه كبد  حمزة  عم النبي - صلى الله عليه وسلم - " . 
فلا ريب أن  أبا سفيان بن حرب  كان قائد المشركين يوم أحد  ، وكسرت ذلك اليوم ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كسرها بعض المشركين . لكن لم يقل أحد   : إن  أبا سفيان  باشر ذلك ، وإنما كسرها عتبة بن أبي وقاص  
[85] ، وأخذت هند  كبد  حمزة  فلاكتها ، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها . 
وكان هذا قبل إسلامهم ، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند  ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرمها ، والإسلام يجب ما قبله ، وقد قال الله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف   ) سورة الأنفال . 
وفي صحيح  مسلم  عن عبد الرحمن بن شماسة المهري  قال :   [86] حضرنا 
[87]  [ ص: 475 ]  عمرو بن العاص  وهو في سياقة 
[88] الموت ، فبكى طويلا ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول : 
[89] ما يبكيك يا أبتاه ؟ أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟ أما بشرك بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه فقال : 
[90] إن أفضل ما نعد 
[91] شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا  رسول الله ، إني قد كنت على أطباق ثلاث ، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله - عز وجل - الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي . فقال : " ما لك 
[92] يا عمرو  ؟ " قال : قلت : أريد أن أشترط ، قال : " تشترط بماذا ؟ " 
[93] قلت : أن يغفر لي . قال :   
[94]  " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ " وذكر الحديث   
[95]  . 
وفي  البخاري   : لما أسلمت هند [ أم  معاوية    - رضي الله عنهما - ] قالت : 
[96]  [ ص: 476 ] والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك 
[97]  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					