( فصل ) . 
ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل  
[1] في دمائها وأموالها وأعراضها ، كالقتال واللعن والتكفير . وقد ثبت في الصحيحين عن  أسامة بن زيد   - رضي الله عنه - أنه قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فصبحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلا فعلوته بالسيف ،  [ ص: 453 ] فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته فقتلته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أقتلته بعدما قال : لا إله إلا الله ؟ " قال : قلت : يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح . قال : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها [ خوفا من السلاح ] 
[2] أم لا ؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ  " 
[3]  . 
وفي الصحيحين عن المقداد بن الأسود   - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله . أفأقتله بعد أن قالها ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقتله " فقلت : يا رسول الله إنه قطعها ثم قال [ ذلك ] 
[4] بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقتله ، فإنك إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها  " 
[5]  . 
فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قوما مسلمين لا 
[6] يحل قتلهم ، ومع هذا فلم يقتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ضمن المقتول بقود ولا دية  [ ص: 454 ] ولا كفارة ، لأن القاتل كان متأولا . وهذا قول أكثر العلماء ،  كالشافعي   وأحمد  وغيرهما . ومن الناس من يقول : بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا ، فثبتت في حقهم العصمة المؤثمة دون المضمنة ، بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم ، كما يقوله  أبو حنيفة  وبعض المالكية . ثم إن جماهير العلماء ،  كمالك   [  وأبي حنيفة   ] 
[7]  وأحمد  في ظاهر مذهبه ،  والشافعي  في أحد قوليه : يقولون : إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوه  لهؤلاء من النفوس 
[8] والأموال حال القتال ، ولم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء [9]  . 
كما قال  الزهري   : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 
[10] متوافرون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم 
[11] منزلة الجاهلية  . يعني بذلك أن القاتل لم يكن يعتقد أنه فعل محرما 
[12]  . وإن قيل 
[13]  : إنه محرم في نفس الأمر ، فقد ثبت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتواترة واتفاق المسلمين أن الكافر الحربي إذا قتل  [ ص: 455 ] مسلما أو أتلف ماله ثم أسلم ، لم يضمنه  بقود [ ولا دية ] 
[14] ولا كفارة ، مع أن قتله له كان من أعظم الكبائر ؛ لأنه كان متأولا ، وإن كان تأويله فاسدا . 
وكذلك المرتدون الممتنعون إذا قتلوا بعض المسلمين ، لم يضمنوا دمه إذا عادوا إلى الإسلام  عند أكثر العلماء ، كما هو قول 
[15]  أبي حنيفة   ومالك   وأحمد  ، وإن كان من متأخري أصحابه من يحكيه قولا ، كأبي بكر عبد العزيز  
[16] حيث قد نص  أحمد  على أن المرتد يضمن ما أتلفه بعد الردة . 
فهذا النص في المرتد المقدور عليه ، وذاك في المحارب الممتنع ، كما يفرق بين الكافر الذمي 
[17] والمحارب ، أو يكون في المسألة روايتان ،  وللشافعي  قولان ، وهذا هو الصواب ; فإن المرتدين الذين قاتلهم  الصديق  وسائر الصحابة لم يضمنهم الصحابة بعد عودهم إلى الإسلام بما كانوا قتلوه من المسلمين وأتلفوه من أموالهم ؛ لأنهم كانوا متأولين . 
فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة - رضي الله عنهم - ، وإذا كان هذا 
[18] في الدماء والأموال ، مع أن من أتلفها خطأ ضمنها بنص القرآن فكيف في الأعراض 
[19] ؟ مثل لعن بعضهم بعضا ، وتكفير بعضهم بعضا . 
وقد ثبت في الصحيحين من حديث الإفك ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي . والله ما علمت على  [ ص: 456 ] أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا [ والله ] 
[20] ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . قال  سعد بن معاذ   : أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس  ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج  
[21] أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام 
[22]  سعد بن عبادة  ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ، فقال : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله . فقام  أسيد بن حضير  فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فاستب الحيان حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ، وكان  سعد بن عبادة   - رضي الله عنه - يريد الدفع عن عبد الله بن أبي  المنافق ، [ فقال له  أسيد بن حضير   : إنك منافق ] 
[23] ، وهذا كان تأويلا [ منه ] 
[24]  . 
وكذلك ثبت في الصحيحين أن  عمر بن الخطاب   - رضي الله عنه - قال  لحاطب بن أبي بلتعة   : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، لما كاتب المشركين بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، [ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] 
[25]  : " إنه شهد بدرا ، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم  " 
[26]  . 
 [ ص: 457 ] وثبت في الصحيحين أن طائفة من المسلمين قالوا في مالك بن الدخشن   : إنه منافق ، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولم يكفرهم . 
فقد ثبت أن في الصحابة من قال عن بعض أمته : إنه منافق متأولا في ذلك ، ولم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدا منهما [27]  . 
. وقد ثبت في الصحيح [28]  . 
أن فيهم من لعن عبد الله  حمارا [29] لكثرة شربه  [ ص: 458 ] الخمر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله  "     
[30] ولم يعاقب اللاعن لتأويله . 
والمتأول المخطيء مغفور له بالكتاب والسنة . قال الله تعالى في دعاء المؤمنين : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا   ) وثبت في الصحيح 
[31] أن الله عز وجل قال ; " قد فعلت "  [32] 
. وفي سنن  ابن ماجه  وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان  " [33] 
. 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					