فصل  
ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار ; فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن  الكفار مخاطبون بالفروع   بقوله تعالى :  قالوا لم نك من المصلين   ولم نك نطعم المسكين   الآية [ المدثر : 43 44 ] إذ لو كان قولهم باطلا لرد عند حكايته .  
واستدل على أن  أصحاب الكهف    سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم :  ثلاثة رابعهم كلبهم      [ الكهف : 22 ] وأنهم  خمسة سادسهم كلبهم      [ الكهف : 22 ] أعقب ذلك بقوله :  رجما بالغيب      [ الكهف : 22 ] أي : ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا ، ولما حكى قولهم :  سبعة وثامنهم كلبهم      [ الكهف : 22 ] لم يتبعه بإبطال بل قال :  قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل      [ الكهف : 22 ] ; دل المساق على صحته دون القولين الأولين      [ ص: 162 ] وروي عن   ابن عباس  أنه كان يقول : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم .  
ورأيت منقولا  عن   سهل بن عبد الله  أنه سئل عن قول  إبراهيم   عليه السلام  رب أرني كيف تحي الموتى      [ البقرة : 260 ] فقيل له : أكان شاكا حين سأل ربه أن يريه آية ؟ فقال : لا ، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان ألا تراه قال :  أولم تؤمن قال بلى      [ البقرة : 260 ] فلو علم شكا منه لأظهر ذلك     ; فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان .  
بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله :  قالت الأعراب آمنا      [ الحجرات : 14 ] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله  قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم      [ الحجرات : 14 ]      [ ص: 163 ] ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها ، وما هو منها حق مما هو باطل .  
فقد قال تعالى :  إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله      [ المنافقون : 1 ] إلى آخرها فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل فظاهرها حق وباطنها كذب ، من حيث كان إخبارا عن المعتقد وهو غير مطابق ; فقال تعالى :  والله يعلم إنك لرسوله      [ المنافقون : 1 ] تصحيحا لظاهر القول ، وقال :  والله يشهد إن المنافقين لكاذبون      [ المنافقون : 1 ] إبطالا لما قصدوا به وقال تعالى :  وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة   الآية [ الزمر : 67 ] وسبب نزولها ما خرجه  الترمذي  وصححه عن   ابن عباس     ; قال :  مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي : حدثنا يا يهودي فقال : كيف تقول يا  أبا القاسم   إذا وضع الله السماوات على ذه ، والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ؟ وأشار الراوي بخنصره أولا ، ثم تابع حتى بلغ الإبهام ؟ فأنزل الله :  وما قدروا الله حق قدره      [ الزمر : 67 ]  وفي رواية أخرى :  جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال يا  محمد      ! إن الله يمسك السماوات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ،      [ ص: 164 ] والخلائق على أصبع ، ثم يقول : أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال :  وما قدروا الله حق قدره      [ الزمر : 67 ] وفي رواية : فضحك النبي تعجبا وتصديقا     .  
والحديث الأول كأنه مفسر لهذا ، وبمعناه يتبين معنى قوله :  وما قدروا الله حق قدره      [ الزمر : 67 ] ; فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة ، وذلك قوله :  والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه      [ الزمر : 67 ] وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه ; فقال :  وما قدروا الله حق قدره      [ الزمر : 67 ] وقال تعالى :  ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن      [ التوبة : 61 ] أي : يسمع الحق والباطل ، فرد      [ ص: 165 ] الله عليهم فيما هو باطل ، وأحق الحق ; فقال :  قل أذن خير لكم   ،  ورحمة للذين آمنوا منكم   الآية [ التوبة : 61 ] ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى :  والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم      [ التوبة : 61 ] وقال تعالى :  وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه      [ يس : 47 ] فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء ; فرد عليهم بقوله :  إن أنتم إلا في ضلال مبين      [ يس : 47 ] ; لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر ، وجواب أنفقوا أن يقال : نعم أو لا ، وهو الامتثال أو العصيان ، فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض ; انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا ; إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة ; لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق ، فكأنهم قالوا : كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم ؟ وهذا عين الضلال في نفس الحجة .  
وقال تعالى :  وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث   إلى قوله  وكلا آتينا حكما وعلما      [ الأنبياء : 78 ] فقوله :  ففهمناها سليمان      [ الأنبياء : 79 ] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم وإيماء إلى خلاف ذلك في  داود   عليه السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله      [ ص: 166 ] الوسع قال :  وكلا آتينا حكما وعلما      [ الأنبياء : 79 ] وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه .  
قال  الحسن     : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين ; لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق .  
				
						
						
