فصل  
وإن كان  الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا      ; فهو قسمان :  
قسم يرجع إلى صلاح الهيئة ، وحسن الظن عند الناس ، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله .  
وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا ، وهذا ضربان :  
أحدهما : يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل .  
والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك ; فهذه ثلاثة أقسام .  
 [ ص: 361 ] أحدها : يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة .  
فإن كان هذا القصد متبوعا ; فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير ، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله ، وهذا بين .  
وإن كان تابعا ; فهو محل نظر واجتهاد ، واختلف العلماء في هذا الأصل ; فوقع في العتبية في  الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم   ، ويحب أن يلقى في طريق المسجد ، ويكره أن يلقى في طريق غيره ; فكره  ربيعة  هذا ، وعده  مالك  من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان ; أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير ; فيقول له : إنك لمراء وليس كذلك ، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك ، وقد قال تعالى :  وألقيت عليك محبة مني      [ طه : 39 ] .  
وقال عن  إبراهيم   عليه السلام :  واجعل لي لسان صدق في الآخرين      [ الشعراء : 84 ] . وفي حديث   ابن عمر     :  وقع في نفسي أنها النخلة ، فأردت أن أقولها ، فقال  عمر     : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا     .  
وطلب العلم عبادة   ، قال  ابن العربي     :  سألت  شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي  عن قوله تعالى :  إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا      [ البقرة : 160 ]      [ ص: 362 ] ما بينوا ؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات . قلت : ويلزم ذلك ؟ قال : نعم ; لتثبت أمانته ، وتصح إمامته ، وتقبل شهادته     " .  
قال  ابن العربي     : ويقتدي به غيره ; فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى   والغزالي  يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة .  
والثاني : ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه ، مع الغفلة عن مراءاة الغير ، وله أمثلة :  
أحدها : الصلاة في المسجد للأنس بالجيران ، أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال .  
والثاني : الصوم توفيرا للمال ، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه ، أو احتماء لألم يجده ، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له .  
والثالث : الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس .  
والرابع : الحج لرؤية البلاد ، والاستراحة من الأنكاد ، أو للتجارة ، أو لتبرمه بأهله وولده ، أو إلحاح الفقر .  
 [ ص: 363 ] والخامس : الهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال .  
والسادس : تعلم العلم ليحتمي به عن الظلم .  
والسابع : الوضوء تبردا .  
والثامن : الاعتكاف فرارا من الكراء .  
والتاسع : عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك .  
والعاشر : تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث .  
والحادي عشر : الحج ماشيا ليتوفر له الكراء .  
وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة ، وقد التزم   الغزالي  فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص ، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض ، وأماابن العربي ،  فذهب إلى خلاف ذلك ، وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما ;  فابن العربي  يلتفت إلى وجه الانفكاك فيصحح العبادات ، وظاهر   الغزالي  الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا ، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا ، وذلك بناء على مسألة  الصلاة في الدار المغصوبة   ، والخلاف فيها واقع ، ورأي  أصبغ  فيها البطلان ، فإذا كان كذلك ; اتجه      [ ص: 364 ] النظران ، وظهر مغزى المذهبين .  
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه ; لما جاء      [ ص: 365 ]  [ ص: 366 ] من الأدلة على ذلك ; ففي القرآن الكريم :  ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم      [ البقرة : 198 ] ، يعني في مواسم الحج .  
وقال  ابن العربي  في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة : إنه دأب المرسلين ; فقد قال الخليل عليه السلام :  إني ذاهب إلى ربي سيهدين      [ الصافات : 99 ] ، وقال الكليم :  ففررت منكم لما خفتكم      [ الشعراء : 21 ] ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت قرة عينه في الصلاة ; فكان يستريح إليها      [ ص: 367 ] من تعب الدنيا ، وكان فيها نعيمه ولذته ، أفيقال : إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها ؟ كلا ، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها .  
وفي الصحيح :  يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج ; فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع ; فعليه بالصوم فإنه له وجاء     .  
ذكر   ابن بشكوال  عن  أبي علي الحداد ;  قال : حضرت  القاضي أبا بكر بن زرب  شكا إلى  الترجيلي  المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه ، على ما لم يكن يعهد من نفسه ، وسأله عن الدواء ، فقال : اسرد الصوم تصلح معدتك . فقال له : يا  أبا عبد الله     ! على غير هذا دلني ، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا ، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها . قال  أبو علي     : وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام - يعني : هذا الحديث - وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس ، وأحسبني ذاكرته في ذلك في غير هذا المجلس ; فسلم للحديث .  
 [ ص: 368 ] وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا في شعب ، فقام يصلى ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد .  
 [ ص: 369 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة ; كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث ، وما لم يعمل به  مالك  فقد عمل به غيره ، وكالتخفيف لأجل      [ ص: 370 ] الشيخ والضعيف وذي الحاجة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "  إني لأسمع بكاء      [ ص: 371 ] الصبي     " الحديث .  
وكرد السلام في الصلاة ، وحكاية المؤذن ، وما أشبه ذلك مما هو      [ ص: 372 ] عمل خارج عن حقيقة الصلاة ، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ، ومع ذلك ; فلا يقدح في حقيقة إخلاصها .  
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواه ; لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى ، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه ، وانتظار الصلاة ، والكف عن إذاية الناس ، واستغفار الملائكة له ، فإن كل قصد منها شاب غيره ، وأخرجه عن إخلاصه عن غيره ، وهذا غير صحيح باتفاق ، بل كل قصد منها صحيح في نفسه ، وإن كان العمل واحدا ; لأن الجميع محمود شرعا ، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه ، لاشتراكهما في الإذن الشرعي ، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها ، كالحديث ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، والرياء ، وما أشبه ذلك ، أما ما لا منافاة فيه ، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة ؟ هذا لا ينبغي أن يقال ، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان      [ ص: 373 ] الحكم للغالب ، فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد .  
والثالث : ما يرجع إلى المراءات ، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه ، فهو  الرياء المذموم شرعا   ، وأدهى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم ، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا ، وحكمه معلوم ; فلا فائدة في الإطالة فيه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					