فصل  
واعلم أن  العرب   كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس ، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق ، واتصاف بمحاسن شيم ، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه ، وأبطلت ما هو باطل ، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ، ومضار ما يضر منه .  
فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر ، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها ، وتعرف منازل سير النيرين ، وما يتعلق بهذا      [ ص: 113 ] المعنى ، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى :  وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر      [ الأنعام : 97 ] .  
وقوله :  وبالنجم هم يهتدون      [ النحل : 16 ] .  
وقوله :  والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم   لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار      [ يس : 39 - 40 ] .  
وقوله :  هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب      [ يونس : 5 ] .  
وقوله :  وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة      [ الإسراء : 12 ] الآية .  
وقوله :  ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين      [ الملك : 5 ] .  
وقوله :  يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج      [ البقرة : 189 ] .  
وما أشبه ذلك .  
 [ ص: 114 ] ومنها : علوم الأنواء ، وأوقات نزول الأمطار ، وإنشاء السحاب ، وهبوب الرياح المثيرة لها ، فبين الشرع حقها من باطلها ، فقال تعالى :  هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال   ويسبح الرعد بحمده      [ الرعد : 12 - 13 ] الآية .  
وقال :  أفرأيتم الماء الذي تشربون   أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون      [ الواقعة : 68 - 69 ] .  
وقال :  وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا      [ النبأ : 14 ] .  
وقال :  وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون      [ الواقعة : 82 ] .  
خرج  الترمذي     :  قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون      [ الواقعة : 82 ] ; قال شكركم ، تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا      [ ص: 115 ] وكذا     .  
وفي الحديث :  أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي  الحديث في الأنواء .  
 [ ص: 116 ] وفي الموطأ مما انفرد به :  إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت; فتلك عين غديقة     .  
 [ ص: 117 ] وقال   عمر بن الخطاب  للعباس  وهو على المنبر والناس تحته : كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال له  العباس     : بقي من نوئها كذا وكذا     .  
فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار .  
وقال تعالى :  وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه      [ الحجر : 22 ] الآية .  
وقال :  والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها      [ فاطر : 9 ] .  
إلى كثير من هذا .  
ومنها : علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية ، وفي القرآن من ذلك ما هو كثير ، وكذلك في السنة ، ولكن القرآن احتفل في ذلك ، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم ، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون ،      [ ص: 118 ] قال تعالى :  ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم      [ آل عمران : 44 ] الآية .  
وقال تعالى :  تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا      [ هود : 49 ] .  
وفي الحديث قصة أبيهم  إبراهيم   وإسماعيل   عليهما السلام في بناء  البيت   وغير ذلك مما جرى .  
ومنها : ما كان أكثره باطلا أو جميعه; كعلم العيافة ، والزجر ، والكهانة ، وخط الرمل ، والضرب بالحصى ، والطيرة; فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل      [ ص: 119 ] ونهت عنه; كالكهانة ، والزجر ، وخط الرمل ، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب; فإن الكهانة والزجر كذلك ، وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل; فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض ، وهو الوحي والإلهام . وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام - جزء من النبوة ، وهو الرؤيا الصالحة ، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة .  
 [ ص: 120 ] ومنها : علم الطب; فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل ، بل مأخوذ من تجاريب الأميين ، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون ، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة ، لكن على وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير; فقال تعالى :  وكلوا واشربوا ولا تسرفوا      [ الأعراف : 31 ] .  
وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء ، وأبطل من      [ ص: 121 ] ذلك ما هو باطل; كالتداوي بالخمر ، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا .  
ومنها : التفنن في علم فنون البلاغة ، والخوض في وجوه الفصاحة ، والتصرف في أساليب الكلام ، وهو أعظم منتحلاتهم; فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم ، قال تعالى :  قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا      [ الإسراء : 88 ] .  
 [ ص: 122 ] ومنها : ضرب الأمثال ، وقد قال تعالى :  ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل      [ الروم : 58 ] ; إلا ضربا واحدا ، وهو الشعر ، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه ، قال تعالى في حكايته عن الكفار :  أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون   بل جاء بالحق وصدق المرسلين      [ الصافات : 36 ] ; أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ، ولذلك قال :  وما علمناه الشعر وما ينبغي له      [ يس : 69 ] الآية .  
وبين معنى ذلك في قوله تعالى :  والشعراء يتبعهم الغاوون   ألم تر أنهم في كل واد يهيمون   وأنهم يقولون ما لا يفعلون      [ الشعراء : 224 - 226 ] .  
فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ، ولكنه هيمان على غير تحصيل ، وقول لا يصدقه فعل ، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى .  
فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية .  
وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها; فهو أول ما خوطبوا به ، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية ، من حيث كان آنس لهم ،      [ ص: 123 ] وأجري على ما يتمدح به عندهم; كقوله تعالى :  إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى      [ النحل : 90 ] إلى آخرها .  
وقوله تعالى :  قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا      [ الأنعام : 151 ] إلى انقضاء تلك الخصال .  
وقوله :  قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده      [ الأعراف : 32 ] .  
وقوله :  قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق      [ الأعراف : 33 ] .  
إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى .  
لكن أدرج فيها ما هو أولى ؛ من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة ، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم ، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك ، أو فيه من المفاسد ما يربي على المصالح التي توهموها; كما قال تعالى :  إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه      [ المائدة : 90 ] .  
ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر; من إيقاع العداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا; لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان ، وتبعث البخيل على البذل ، وتنشط الكسالى ، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين ، والعطف على المحتاجين ، وقد قال تعالى :      [ ص: 124 ] يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما      [ البقرة : 219 ] .  
والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ، ولهذا قال عليه السلام :  بعثت لأتمم مكارم الأخلاق     .  
إلا أن  مكارم الأخلاق   إنما كانت على ضربين :  
أحدهما : ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول ، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي ، وهو :  
الضرب الثاني : وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر; حتى كان من آخره تحريم الربا ، وما أشبه ذلك ، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق ، وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة .  
 [ ص: 125 ] ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام ، كما قالوا في القراض ، وتقدير الدية ، وضربها على العاقلة ، وإلحاق الولد بالقافة ، والوقوف بالمشعر الحرام ، والحكم في الخنثى ، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين ، والقسامة ، وغير ذلك مما ذكره العلماء .  
ثم نقول : لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون; من سماء ، وأرض ، وجبال ، وسحاب ، ونبات ، وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم ، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها ، وأن ما جاء به  محمد   هي تلك بعينها ، كقوله تعالى :  ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا      [ الحج : 78 ] .  
وقوله :  ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا      [ آل عمران : 67 ] الآية .  
غير أنهم غيروا جملة منهم ، وزادوا ، واختلفوا ، فجاء تقويمها من جهة  محمد      - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم ، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا ، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي; كقوله :  وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين   في سدر مخضود   وطلح منضود   وظل ممدود      [ الواقعة : 27 - 30 ] إلى آخر الآيات .  
وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم; كالماء ،      [ ص: 126 ] واللبن ، والخمر ، والعسل ، والنخيل ، والأعناب ، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز ، واللوز ، والتفاح ، والكمثرى ، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم ، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة .  
وقال تعالى :  ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن      [ النحل : 125 ] .  
فالقرآن كله حكمة ، وقد كانوا عارفين بالحكمة ، وكان فيهم حكماء; فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله ، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير;  كقس بن ساعدة  وغيره ، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة; وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة .  
وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير; تجد الأمر كما تقرر ، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					