الباب الخامس  
[ في  كيفية القضاء      ]  
وأما كيف يقضي القاضي ، فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس      [ ص: 778 ] وألا يسمع من أحدهما دون الآخر ، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه . وإن لم يكن له بينة فإن كان في مال وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق ، وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند   الشافعي  بمجرد الدعوى ، وقال  مالك     : لا تجب إلا مع شاهد .  
وإذا كان في المال فهل يحلفه المدعى عليه بنفس الدعوى أم لا يحلفه حتى يثبت المدعي الخلطة ؟ اختلفوا في ذلك ، فقال جمهور فقهاء الأمصار : اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - من حديث   ابن عباس     : "  البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه     " ، وقال  مالك     : لا تجب اليمين إلا بالمخالطة ، وقال بها السبعة من فقهاء  المدينة      .  
وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوي إلى تعنيت بعضهم بعضا ، وإذاية بعضهم بعضا ، ومن هنا لم ير  مالك  إحلاف المرأة زوجها إذا ادعت عليه الطلاق إلا أن يكون معها شاهد ، وكذلك إحلاف العبد سيده في دعوى العتق عليه .  
والدعوى لا تخلو أن تكون في شيء في الذمة أو في شيء بعينه :  
فإن كانت الذمة فادعى المدعى عليه البراءة من تلك الدعوى وأن له بينة سمعت منه بينته باتفاق .  
وكذلك إن كان اختلاف في عقد وقع في عين مثل بيع أو غير ذلك .  
وأما إن كانت الدعوى في عين ( وهو الذي يسمى استحقاقا ) ، فإنهم اختلفوا هل تسمع بينة المدعى عليه ؟ فقال  أبو حنيفة     : لا تسمع بينة المدعى عليه إلا في النكاح وما لا يتكرر ، وقال غيره : لا تسمع في شيء ، وقال  مالك  ،   والشافعي     : تسمع ( أعني : في أن يشهد للمدعي بينة المدعى عليه أنه مال له وملك ) . فعمدة من قال لا تسمع ، أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه ، فوجب أن لا ينقلب الأمر ، وكان ذلك عندهما عبادة .  
وسبب الخلاف : هل تفيد بينة المدعى عليه معنى زائدا على كون الشيء المدعى فيه موجودا بيده ، أم ليست تفيد ذلك ؟ فمن قال : لا تفيد معنى زائدا ، قال : لا معنى لها ، ومن قال : تفيد اعتبرها .  
فإذا قلنا باعتبار بينة المدعى عليه فوقع التعارض بين البينتين ولم تثبت إحداهما أمرا زائدا   مما لا يمكن أن يتكرر في ملك ذي الملك ، فالحكم عند  مالك  أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر ، وقال  أبو حنيفة     : بينة المدعي أولى على أصله ولا تترجح عنده بالعدالة كما لا تترجح عند  مالك  بالعدد ، وقال   الأوزاعي     : تترجح بالعدد وإذا تساوت في العدالة فذلك عند  مالك  كالبينة يحلف المدعى عليه ، فإن نكل حلف المدعي ووجب الحق ; لأن يد المدعى عليه شاهدة له ، ولذلك جعل دليله أضعف الدليلين ( أعني : اليمين ) .  
وأما إذا أقر الخصم فإن كان المدعى فيه عينا فلا خلاف أنه يدفع إلى مدعيه . وأما إذا كان مالا في الذمة ، فإنه يكلف المقر غرمه فإن ادعى العدم حبسه القاضي عند  مالك  حتى يتبين عدمه إما بطول السجن أوبالبينة إن كان متهما فإذا لاح عسره خلى سبيله لقوله تعالى : (  وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة      ) وقال قوم : يؤاجره ، وبه قال  أحمد  ، وروي عن   عمر بن عبد العزيز  ، وحكي عن  أبي حنيفة  أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار .  
 [ ص: 779 ] ولا خلاف أن  البينة إذا جرحها المدعى عليه   أن الحكم يسقط إذا كان التجريح قبل الحكم ، وإن كان بعد الحكم لم ينتقض عند  مالك  ، وقال   الشافعي     : ينتقض .  
وأما إن رجعت البينة عن الشهادة ، فلا يخلو أن يكون ذلك قبل الحكم أو بعده .  
فإن كان قبل الحكم فالأكثر أن الحكم لا يثبت ، وقال بعض الناس : يثبت .  
وإن كان بعد الحكم فقال  مالك     : يثبت الحكم ، وقال غيره : لا يثبت الحكم .  
وعند  مالك  أن  الشهداء يضمنون ما أتلفوا بشهادتهم      .  
فإن كان مالا ضمنوه على كل حال ، قال  عبد الملك     : لا يضمنون في الغلط ، وقال   الشافعي     : لا يضمنون المال .  
وإن كان دما فإن ادعوا الغلط ضمنوا الدية ، وإن أقروا أقيد منهم على قول  أشهب  ، ولم يقتص منهم على قول  ابن القاسم     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					