الطرف الثاني في بيان المزهق    . 
فالفعل الذي له مدخل في الزهوق ، إما أن لا يؤثر في حصول الزهوق ، ولا في حصول ما يؤثر في الزهوق ، وإما أن يؤثر في الزهوق ويحصله ، وإما أن يؤثر في حصول ما يؤثر في الزهوق ، فأما الأول ، فكحفر البئر مع التردي أو التردية ، وكالإمساك مع القتل . وأما الثاني فكالقد ، وحز الرقبة ، والجراحات السارية . وأما الثالث فكالإكراه المؤثر في القد ، فالأول شرط ، والثاني علة ، والثالث سبب ، ولا يتعلق القصاص بالشرط ، ويتعلق بالعلة ، وكذا بالسبب على تفصيل وخلاف سنراه - إن شاء الله تعالى - . ثم السبب ثلاثة أضرب : 
الأول : ما يولد المباشرة توليدا حسيا ، وهو الإكراه ، فإذا أكرهه على قتل بغير حق ، وجب القصاص على الآمر على الصحيح المنصوص ، وبه قطع الجمهور ، وعن ابن سريج أنه لا قصاص ، لأنه متسبب ، والمأمور مباشر آثم بفعله ، والمباشرة مقدمة ، وقد سبق بيان حقيقة الإكراه في كتاب الطلاق ، والذي مال إليه المعتبرون هنا ورجحوه ، أن الإكراه على القتل  لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل ، أو ما يخاف منه التلف ، كالقطع والجرح والضرب الشديد بخلاف الطلاق ، وحكم الإكراه الصادر من الإمام أو نائبه أو المتغلب سواء فيما ذكرناه . 
الضرب الثاني : ما يولدها شرعا وهو الشهادة ، فإذا شهدوا على   [ ص: 129 ] رجل بما يوجب قتله قصاصا  ، أو بردة ، أو زنى وهو محصن ، فحكم القاضي بشهادتهم وقتله بمقتضاها ، ثم رجعوا وقالوا : تعمدنا وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا ، لزمهم القصاص ، ولو شهدوا بما يوجب القطع قصاصا ، أو في سرقة ، فقطع ، ثم رجعوا وقالوا : تعمدنا  ، لزمهم القطع ، وإن سرى فعليهم القصاص في النفس ، وإن رجع الشهود وقالوا : لم نعلم أنه يقتل بقولنا ، أو رجع المزكي أو القاضي أو الوالي وحده أو مع الشهود ، فسيأتي بيان كل ذلك في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى . 
وإنما يجب القصاص على الشهود بالرجوع واعترافهم بالتعمد  ، لا بكذبهم ، حتى لو تيقنا كذبهم بأن شاهدنا المشهود بقتله حيا ، فلا قصاص عليهم لاحتمال أنهم لم يتعمدوا ، ولا يلزمهم القصاص بالرجوع إلا إذا أخرجت شهادتهم مباشرة الولي عن كونها عدوانا ، أما إذا اعترف الولي بكونه عالما بكذبهم ، فلا قصاص عليهم ، وعلى الولي القصاص ، رجعوا أم لم يرجعوا . 
الضرب الثالث : ما يولدها توليدا عرفيا ، كتقديم الطعام المسموم ، فإذا أوجروه سما صرفا ، أو مخلوطا وهو مما يقتل غالبا ، سواء كان موحيا أو غير موح ، فمات  ، لزمه القصاص ، وإن كان لا يقتل غالبا وقد يقتل فهو شبه عمد ، فلا قصاص على المشهور ، وحكى   ابن كج  قولا : إنه يجب القصاص ، لأن للسم نكاية في الباطن كالجرح ، فعلى المشهور لو كان السم لا يقتل غالبا ، لكن أوجره ضعيفا بمرض أو غيره ومثله يقتل مثله غالبا ، وجب القصاص . 
ولو قال المؤجر : كان مما لا يقتل غالبا ، ونازعه الولي ، فالقول قول المؤجر بيمينه ، فإن ساعدته بينة ، فلا يمين عليه ، وإن أقام الولي بينة على ما يقوله ، وجب القصاص ، ولو اتفقا على أنه كان من هذا السم الحاضر ، وشهد عدلان أنه يقتل غالبا ، وجب القصاص ، ولو قال : لم أعلم أنه سم ، أو لم أعلم أنه يقتل غالبا ، ونازعه الولي ، فهل يصدق المؤجر ؟ قولان . 
قال  الروياني     :   [ ص: 130 ] فيما إذا قال : لم أعلم كونه قاتلا ، أظهرهما : لا يصدق ، فيجب القصاص ، ولو لم يوجره السم القاتل ، لكن أكرهه على شربه ، فشربه  ، قال  الداركي  وغيره : في وجوب القصاص قولان . 
أظهرهما : الوجوب ، والوجه أن يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . 
فرع . 
لو . ناوله الطعام المسموم وقال : كله ، أو قدمه إليه وضيفه به ، فأكله ، ومات به  ، فإن كان صبيا أو مجنونا ، لزمه القصاص ، سواء قال لهما : هو مسموم أم لا ، وذكروا مثله في الأعجمي الذي يعتقد أنه لا بد من الطاعة في كل ما يشار عليه به ، ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره ، ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ ، وللنظرين محال ، وإن كان بالغا عاقلا ، فإن علم حال الطعام ، فلا شيء على المناول والمقدم ، بل الأكل هو المهلك نفسه ، وإلا ففي القصاص قولان ، وهما جاريان فيما لو غطى رأس بئر في دهليزه ، ودعا إلى داره ضيفا ، وكان الغالب أنه يمر على ذلك الموضع إذا أتاه ، فأتاه وهلك بها  ، أظهرهما : لا قصاص . 
وطرد  البغوي  القولين فيما لو قال : كل ، وفيه شيء من السم ، لكنه لا يضرك ، وفيما إذا جعل السم في جرة ماء على الطريق فشرب منه ، ومات    . 
ولتكن الصورة فيما إذا كان على طريق شخص معين ، إما مطلقا ، وإما في ذلك الوقت ، وإلا فلا تتحقق العمدية . 
فإذا قلنا : لا قصاص ، وجبت الدية على الأظهر ، فإن هذا أقوى من حفر البئر ، وفي قول : لا تجب تغليبا للمباشرة ، ولو دس السم في طعام رجل ، فأكله صاحبه جاهلا بالحال ، ومات  ، فطريقان . 
أصحهما : أنه   [ ص: 131 ] على القولين ، إذا كان الغالب أنه يأكل منه . 
والثاني : القطع بالمنع ، لأنه لم يوجد منه تغرير ، ولا حمل على الأكل ، وإنما وجد منه إتلاف طعامه ، فعليه ضمانه ، ولو دسه في طعام نفسه فدخل شخص داره بغير إذنه وأكله  ، فلا ضمان . 
فإن كان الرجل ممن يدخل داره ، ويأكل انبساطا ، فهل يجري القولان في القصاص ، أم يقطع بنفيه ؟ طريقان . 
فصل 
فيما إذا جرى سبب وقدر المقصود على دفعه وفيه مسائل : 
إحداها : جرحه جراحة مهلكة ، فلم يعالجها المجروح حتى مات  ، وجب القصاص على الجارح ، لأن مجرد الجراحة مهلك ، بخلاف ما لو حبسه والطعام عنده فلم يأكل حتى مات ، لأن الحبس بمجرده ليس مهلكا . 
الثانية : غرقه في ماء ، فإن أمسكه فيه حتى مات ، أو تركه وفيه حياة ، ولكن تألم به ، وبقي متألما حتى مات  ، فعليه القصاص ، وإن ألقاه في الماء ، فمات به ، نظر إن كان الماء بحيث لا يتوقع الخلاص منه كلجة البحر التي لا تنفع فيها السباحة ، وجب القصاص ، سواء كان الملقى يحسن السباحة أم لا ، وإن كان يتوقع الخلاص منه . 
فإن كان قليلا لا يعد مثله مغرقا ، بأن كان راكدا في موضع منبسط ، فمكث الملقى فيه مضطجعا ، أو مستلقيا حتى هلك ، فلا قصاص ولا دية ، فإنه المهلك نفسه ، ومثله لو فصده فلم يعصب نفسه حتى مات  ، لأن الدفع موثوق به ، لكن لو كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص ، فعليه القصاص ، وإن كان يعد مغرقا كالأنهار الكبار التي لا يخلص منها إلا بالسباحة ، فإن كان الملقى مكتوفا ، أو صبيا ، أو   [ ص: 132 ] زمنا ، أو ضعيفا ، أو قويا لا يحسن السباحة ، وجب القصاص ، وإن كان يحسنها ، فمنعه منها عارض موج ، أو ريح ، فلا قصاص ، ولكنه شبه عمد ، وإن ترك السباحة بلا عذر ، حزنا أو لجاجا ، ففي وجوب الدية وجهان أو قولان . 
أصحهما : لا تجب ، وقيل : لا تجب قطعا ، وقيل : عكسه ، ولا قصاص على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وقيل : يجب إن أوجبنا الدية . 
المسألة الثالثة : لو ألقاه في نار لا يمكنه الخلاص منها  ، لعظمها أو كونها في وهدة ، أو كونه مكتوفا ، أو زمنا ، أو صغيرا ، فمات فيها ، أو خرج منها متأثرا متألما ، وبقي متألما إلى أن مات ، فعليه القصاص . 
وإن أمكنه التخلص ، فلم يفعل حتى هلك ، فلا تجب الدية على الأظهر ، ولا قصاص على الصحيح ، ولكن يجب ضمان ما تأثر بالنار بأول الملاقاة قبل تقصيره في الخروج ، سواء كان أرش عضو أو حكومة قطعا . 
فرع . 
قال الملقي : كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من ماء أو نار ، فقصر ، وقال الولي : لم يمكنه  ، فأيهما يصدق بيمينه ؟ وجهان . ويقال : قولان ، لتعارض براءة الذمة ، مع أن الظاهر أنه لو تمكن لخرج . 
قلت : الراجح تصديق الولي . والله أعلم . 
فرع . 
كتفه وطرحه على الساحل ، فزاد الماء وهلك به  ، إن كان في موضع يعلم زيادة الماء فيه ، كالمد بالبصرة  ، وجب القصاص ، وإن كان قد   [ ص: 133 ] يزيد ، وقد لا يزيد ، فهو شبه عمد ، وإن كان بحيث لا يتوقع زيادته ، فاتفق سيل نادر ، فخطأ محض . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					