فصل 
في القيام 
اعلم أن القيام ، أو ما يقوم مقامه ، ركن في الصلاة  ، ويقوم القعود مقامه في النافلة ، وفي الفريضة عند العجز ، ويشترط في القيام ، الانتصاب . 
وهل يشترط الاستقلال بحيث لا يستند ؟ فيه أوجه : أصحها وهو المذكور في ( التهذيب ) ، وغيره لا يشترط . 
فلو استند إلى جدار أو إنسان ، بحيث لو رفع السناد لسقط ، صحت صلاته  مع الكراهة ، والثاني يشترط ولا يصح   [ ص: 233 ] مع الإسناد عند القدرة بحال ، والثالث : يجوز إن كان بحيث لو رفع السناد لم يسقط ، وإلا فلا . 
هذا في استناد لا يسلب اسم القيام . فإن استند متكئا ، بحيث لو رفع قدميه عن الأرض لأمكنه البقاء  ، فهذا معلق نفسه بشيء وليس بقائم . أما إذا لم يقدر على الاستقلال ، فيجب أن ينتصب متكئا على الصحيح . 
وفي وجه شاذ : لا يلزمه القيام في هذا الحال ، بل له الصلاة قاعدا ، وأما الانتصاب المشروط ، فلا يخل به إطراق الرأس ، وإنما المعتبر ، نصب فقار الظهر ، فليس للقادر أن يقف مائلا إلى اليمين أو اليسار ، زائلا عن سنن القيام ، ولا أن يقف منحنيا في حد الراكعين . 
فإن لم يبلغ انحناؤه حد الركوع ، لكن كان إليه أقرب منه إلى الانتصاب ، لم يصح على الأصح . 
قلت : ولو لم يقدر على النهوض للقيام إلا بمعين ، ثم لا يتأذى بالقيام ، لزمه أن يستعين بمن يقيمه . فإن لم يجد متبرعا ، لزمه الاستئجار بأجرة المثل إن وجدها . والله أعلم . 
هذا في القادر على الانتصاب . فأما العاجز ، كمن تقوس ظهره لزمانة أو كبر ، وصار في حد الراكعين  فيلزمه القيام . 
فإذا أراد الركوع ، زاد في الانحناء إن قدر عليه . هذا هو الصحيح الذي قطع به العراقيون وصاحب ( التتمة ) و ( التهذيب ) ونص عليه   الشافعي  رضي الله عنه . 
وقال إمام الحرمين   والغزالي     : يلزمه أن يصلي قاعدا . قالا : فإن قدر عند الركوع على الارتفاع إلى حد الراكعين  لزمه ، ولو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لعلة بظهره تمنع الانحناء لزمه القيام ، ويأتي بالركوع والسجود بحسب الطاقة ، فيحني صلبه قدر الإمكان . فإن لم يطق ، حنى رقبته ، ورأسه ، فإن احتاج فيه إلى شيء يعتمد عليه ، أو إلى أن يميل إلى جنبه لزمه ذلك . فإن لم يطق الانحناء أصلا أومأ إليهما . 
 [ ص: 234 ] قلت : وإذا أمكنه القيام والاضطجاع ولم يمكنه القعود  ، قال صاحب ( التهذيب ) يأتي بالقعود قائما ؛ لأنه قعود وزيادة . 
واعلم بأنه يكره للصحيح أن يقوم على إحدى رجليه ويصح ، ويكره أن يلصق القدمين ، بل يستحب التفريق بينهما ، وتطويل القيام عندنا أفضل من تطويل الركوع والسجود  ، وتطويل السجود أفضل من تطويل الركوع    . 
وإذا طول الثلاثة زيادة على ما يجوز الاقتصار عليه ، فالأصح : أن الجميع يكون واجبا ، والثاني : يقع ما زاد سنة ، ومثله الخلاف في مسح جميع الرأس ، وفي البعير المخرج في الزكاة عن خمس ، وفي البدنة المضحى بها بدلا عن شاة منذورة . والله أعلم . 
فرع   : 
إذا عجز عن القيام في صلاة الفرض  ، عدل إلى القعود ، ولا ينقص ثوابه ؛ لأنه معذور ، ولا نعني بالعجز ، عدم تأتي القيام ، بل خوف الهلاك ، أو زيادة المرض ، أو لحوق مشقة شديدة ، أو خوف الغرق ودوران الرأس في حق راكب السفينة . 
قلت : الذي اختاره إمام الحرمين في ضبط العجز : أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه . والله أعلم . 
ولو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو ، فأدركته الصلاة ، ولو قام لرآه العدو ، أو جلس الغزاة في مكمن ، ولو قاموا رآهم العدو وفسد التدبير  ، فلهم الصلاة قعودا ، وتجب الإعادة لندوره . 
قلت : قال صاحب ( التتمة ) في غير الرقيب : إن خاف لو قام أن يقصده   [ ص: 235 ] العدو ، وصلى قاعدا ، أجزأته على الصحيح ، ولو صلى الكمين في وهدة قعودا ، ففي صحتها قولان . والله أعلم . 
ثم إذا قعد المعذور ، لا يتعين لقعوده هيئة ، بل يجزئه جميع هيئات القعود . لكن يكره الإقعاء في هذا القعود ، وفي جميع قعدات الصلاة ، وفي المراد بالإقعاء ثلاثة أوجه : 
أصحها : أنه الجلوس على الوركين ونصب الفخذين والركبتين  ، وضم إليه  أبو عبيد     : أن يضع يديه على الأرض . 
والثاني : أن يفرش رجليه ، ويضع إليه على عقبيه ، والثالث : أن يضع يديه على الأرض ، ويقعد على أطراف أصابعه . 
قلت : الصواب ، هو الأول ، وأما الثاني : فغلط . فقد ثبت في ( صحيح  مسلم     ) : أن الإقعاء سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفسره العلماء بما قاله الثاني ، ونص على استحبابه   الشافعي  رحمه الله في (   البويطي     ) و ( الإملاء ) في الجلوس بين السجدتين . 
قال العلماء : فالإقعاء ضربان ؛ مكروه وغيره . فالمكروه : المذكور في الوجه الأول وغيره : الثاني . والله أعلم . 
وفي الأفضل من هيئات القعود ، قولان ، ووجهان : 
أحد القولين : وهو أصح الجميع : يقعد مفترشا . وثانيهما : متربعا ، وأحد الوجهين : متوركا ، وثانيهما : ناصبا ركبته اليمنى ، جالسا على رجله اليسرى ، ويجري الخلاف في قعود النافلة . 
وأما ركوع القاعد ، فأقله أن ينحني قدر ما يحاذي وجهه ما قدام ركبتيه من الأرض . 
وأكمله ، أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده ، وأما سجوده ، فكسجود القائم . هذا إذا قدر القاعد على الركوع والسجود ، فإن عجز لعلة بظهره ، أو غيرها ، فعل الممكن من الانحناء . 
ولو قدر القاعد على الركوع ،   [ ص: 236 ] وعجز عن وضع الجبهة على الأرض  ، نظر ، إن قدر على أقل ركوع القاعد وأكمله من غير زيادة أتى بالممكن ، مرة عن الركوع ، ومرة عن السجود ، ولا يضر استواؤهما . 
وإن قدر على زيادة على كمال الركوع ، وجب الاقتصار في الانحناء للركوع على قدر الكمال ، ليتميز عن السجود . 
ويلزمه أن يقرب جبهته من الأرض للسجود أكثر ما يقدر عليه . حتى قال الأصحاب : لو قدر أن يسجد على صدغه ، أو عظم رأسه الذي فوق الجبهة ، وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الأرض ، لزمه ذلك . 
قلت : قال   الشافعي  رحمه الله في ( الأم ) والأصحاب : لو قدر أن يصلي قائما منفردا ، وإذا صلى مع الجماعة احتاج أن يصلي بعضها من قعود  فالأفضل أن يصلي منفردا . 
فإن صلى مع الجماعة وقعد في بعضها صحت ، ولو كان بحيث لو اقتصر على قراءة الفاتحة أمكنه القيام وإذا زاد عجز صلى بالفاتحة . فلو شرع في السورة فعجز قعد ولا يلزمه قطع السورة ليركع . والله أعلم . 
				
						
						
