فصل :  تحكيم الخصمين شخصا   
وإذا حكم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد فيه قاض أو ليس فيه قاض جاز .  
لأن  عمر بن الخطاب   وأبي بن كعب   تحاكما إلى  زيد بن ثابت      .  
ولأنه لما حكم  علي بن أبي طالب   في الإمامة ، كان التحكيم فيما عداها أولى .  
وهكذا حكم أهل الشورى فيها  عبد الرحمن بن عوف      .  
نفوذ حكم المحكم      .  
وإذا جاز التحكيم في الأحكام فنفاذ حكمه معتبر بأربعة شروط :  
أحدها : أن يكون المحكم من أهل الاجتهاد ، ويجوز أن يكون قاضيا ؛ لأنه قد صار بالتحكيم حاكما ، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد بطل تحكيمه ، ولم ينفذ حكمه .  
والشرط الثاني : أن يتفق الخصمان على التراضي به إلى حين الحكم ، فإن رضي به أحدهما دون الآخر أو رضيا به ثم رجعا أو رضي أحدهما بطل تحكيمه ولم ينفذ حكمه ، سواء حكم للراضي أو للراجع .  
والشرط الثالث : أن يكون التحاكم في أحكام مخصوصة .  
والأحكام تنقسم في التحكيم ثلاثة أقسام      :  
قسم يجوز فيه التحكيم : وهو حقوق الأموال ، وعقود المعاوضات ، وما يصح فيه العفو والإبراء .  
وقسم لا يجوز فيه التحكيم ، وهو ما اختص القضاة بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه .  
 [ ص: 326 ] وقسم مختلف فيه وهو أربعة أحكام : النكاح واللعان والقذف والقصاص .  
ففي جواز التحكيم فيها وجهان :  
أحدهما : يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين .  
والثاني : لا يجوز لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها .  
فلو أن  امرأة لا ولي لها خطبها رجل ، فتحاكما إلى رجل ليزوج أحدهما بالآخر   ، فإن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم جاز تحكيمهما وتزويج المحكم لهما . وإن كانا في دار الإسلام وحيث يقدران فيه على الحاكم كان في جوازه وجهان على ما ذكرنا .  
والشرط الرابع : فيما يصير الحكم به لازما لهما .  
وفيه  للشافعي   قولان نص عليهما في اختلاف  العراقيين      :  
أحدهما : أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا ؛ لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أن يقف على خيارها في الانتهاء ، وهو قول  المزني      .  
والقول الثاني : وهو قول  الكوفيين   وأكثر أصحابنا أنه يكون حكم المحكم لازما لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله     " فكان الوعيد دليلا على لزوم حكمه كما قال في الشهادة :  ومن يكتمها فإنه آثم قلبه      [ البقرة : 283 ] فدل الوعيد على لزوم الحكم بشهادته ، وكقوله عليه السلام : "  من علم علما وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار     " فدل الوعيد على لزوم الحكم بما أبداه .  
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  وإذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا     " فصار بتأميرهم له نافذ الحكم عليهم كنفوذه لو كان واليا عليهم ، ولذلك انعقدت الإمامة باختيار أهل الاختيار .  
وحكى  أبو سعيد الإصطخري   فيه وجها ثالثا : أن خيارهما في التحكيم ينقطع بشروعه في الحكم ، فإذا شرع فيه صار لازما لهما ، وإن كان قبل شروعه فيه موقوفا على خيارهما ؛ لأن خيارهما بعد الشروع في الحكم مفض إلى أن لا يلزم بالتحكيم حكم إذا رأى أحدهما توجه الحكم عليه ، فيصير التحكيم لغوا .  
فإذا صار نافذ الحكم بما ذكرناه ، نظر ، فإن كان ممن يجوز أن يشهد لهم عليهم      [ ص: 327 ] لزم المتنازعين إليه حكمه ، وكان المحكوم عليه مأخوذا به ما لم يتعد الحكم إلى غير المتنازعين .  
ولم يكن للقاضي أن يرد حكمه إلا ما يرده من حكم غيره من القضاة .  
وإذا حكم بينهما أشهد به في المجلس الذي حكم فيه قبل التفرق ؛ لأن قوله لا يقبل عليهما بعد الافتراق ، كما لا يقبل قول الحاكم بعد العزل .  
فإن  تعدى الحكم إلى غير المتنازعين   فضربان :  
أحدهما : ما كان منفصلا عن الحكم ، ولا يتصل به إلا عن سبب موجب كتحاكمهما إليه في دين فأقام به مدعيه بينة شهدت بوجوب الدين ، وأن فلانا ضامنه لزم حكمه في الدين ولم يلزم حكمه في الضمان لوجود الرضا ممن وجب عليه الدين وعلم الرضا ممن وجب عليه الضمان .  
والضرب الثاني : أن يكون متصلا بالحكم ، ولا ينفصل عنه إلا بسبب موجب كتحاكمهما إليه في قتل خطأ قامت به البينة ،  ففي وجوب الدية على العاقلة التي لم ترض بحكمه وجهان      :  
أحدهما : تجب عليه الدية لوجوبها على الراضي بحكمه إذا قيل إن الدية على الجاني ثم تتحملها عنه العاقلة .  
والوجه الثاني : لا تجب على العاقلة الدية ؛ لأنهم لم يرضوا بحكمه إذا قيل إن الدية تجب بابتداء على العاقلة .  
وإذا رضي المتنازعان بتحكيم اثنين لم ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا ، فإن اختلفا في الحكم لم ينفذ حكم واحد منهما حتى يتفقا على الحكم كما اتفقا على النظر .  
وإن  كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما   ، والذي لا يجوز أن يشهد لهما والد وولد ، والذي لا يجوز أن يشهد عليهما عدو ، فينظر : فإن  حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد لمن يجوز أن يشهد له من الأجانب   جاز ، كما يجوز أن يشهد عليه وإن لم يجز أن يشهد له .  
وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد على من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان :  
أحدهما : لا يجوز حكمه له ، كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء .  
والوجه الثاني : يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجز أن يحكم له بولاية      [ ص: 328 ] القضاء ؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما ، فصار المحكوم عليه راضيا بحكمه عليه وخالفت الولاية المنعقدة بغير اختيارهما .  
وإن حكم لعدوه نفذ حكمه .  
وإن  حكم على عدوه   ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه :  
أحدها : لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه .  
والوجه الثاني : يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء وولاية التحكيم بخلاف الشهادة ، لوقوع الفرق بينهما بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة .  
الوجه الثالث : أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره .  
				
						
						
