[ ص: 528 ] الباب الثامن : 
في صيام التطوع 
وهو من أفضل الأعمال ، وهو عندنا يجب إتمامه بعد الشروع فيه  ، وفي الكتاب إن تسحر بعد الفجر ولم يعلم بطلوعه مضى فيه ولا شيء عليه ، فإن أفطر فعليه القضاء ، وفي مسلم     : قال - صلى الله عليه وسلم - : " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب  فليتم صومه ; فإنما أطعمه الله وسقاه   " . قال  سند     : القضاء استحسان ; لأنه مأمور بالإمساك بعد الإفساد ، وواجب إذا أفسد لغير عذر عند  مالك  ، وأوجبه ( ح ) مع القدرة ، ونفاه ( ش ) مطلقا بل جوز الفطر له ، وفي  مسلم     : قالت عائشة    - رضي الله عنها - : دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، فقال : " هل عندكم شيء ؟ " فقلنا : لا ، قال : " إني إذا صائم " . ثم أتى يوما آخر فقلنا : يا رسول الله ، أهدي إلينا حيس ، فقال : أرينيه فلقد أصبحت صائما ، فأكل   " . زاد   النسائي     : وأصوم يوما مكانه ، وقياسا على الشروع في تجديد الوضوء والصدقة . 
والجواب عن الأول : أنها قضية عين فلعلها مختصة ، ويؤكده أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم شهوة بطنه على طاعة ربه ، وعن الثاني : المعارضة بالقياس على الحج والعمرة إذا شرع فيها متطوعا ، فإنه يجب الإتمام اتفاقا ، وأما قوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم    ) . والنهي عن الإبطال يوجب الأداء ، فيجب القضاء قياسا على   [ ص: 529 ] النذر ، وتوفية . . . وفي الموطأ عن عائشة   وحفصة     - رضي الله عنهما - أصبحتا صائمتين متطوعتين ، فأهدي إليهما طعام فأفطرتا عليه ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة    : فبدرتني حفصة    - وكانت بنت أبيها - فسألت عن ذلك ، فقال : " اقضيا يوما مكانه   " . ولما قال السائل له - صلى الله عليه وسلم - : هل علي غير ذلك ؟ قال : لا ; إلا أن تطوع . فأثبت الوجوب مع التطوع وهو المطلوب . 
تنبيه 
لا يوجد لنا أن الشروع ملزم إلا في ست عبادات : الصلاة ، والصوم ، والحج ، والعمرة ، والاعتكاف ، والائتمام ، وطواف التطوع ، بخلاف الوضوء ، والصدقة ، والرفد ، والسفر للجهاد ، وغير ذلك ; فإن صوم عاشوراء  عند  مالك  مستحب ، وعند   الشافعي  سنة ، وفي  أبي داود  عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " وصوم عاشوراء إني أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله   " . قال  ابن حبيب     : يقال فيه : تاب الله على آدم    - عليه السلام - ، واستوت السفينة على الجودي ، وفلق البحر لموسى    - عليه السلام - ، وغرق فرعون ، وولد عيسى    - عليه السلام - ، وخرج يونس    - عليه السلام - من الحوت ، ويوسف    - عليه السلام - من الجب ، وتاب الله تعالى على قوم يونس  ، وفيه تكسى الكعبة  كل عام . 
ومن أصبح غير ناو لصومه  أجزأه صومه أو باقيه إن أكل ، وهو مروي عنه - صلى الله عليه وسلم - . ويستحب فيه التوسعة على العيال ، وهو عاشر المحرم ، وقال ( ش ) : التاسع ، وفي  مسلم  عن  الحكم بن الأعرج  قال : انتهيت إلى   ابن عباس     - رضي الله عنهما - وهو متوسد رداءه في زمزم    - فقلت : أخبرني عن صوم عاشوراء ؟ فقال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ، قلت : هكذا كان   [ ص: 530 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه ؟ قال : نعم ، ولأنه مأخوذ من أظماء الإبل ، وعادتهم تسمية الخامس ربعا . والجواب عن الأول : أنا نقول بموجبه ، وليس فيها الاقتصار على التاسع . وعن الثاني : أنه معارض بأن الأصل في الاشتقاق الموافقة في المعنى ، والعاشوراء من العشر . وصوم عرفة مستحب ، وقالت الشافعية : مسنون ، ويستحب إفطاره للحاج ليقوى على الدعاء خلافا ( ح ) ، وفي  أبي داود  وقال - صلى الله عليه وسلم - : " صيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده   " ، وفي  أبي داود     : نهي عن صيام يوم عرفة بعرفة     . 
سؤال : قال العلماء : المراد بالتكفير الصغائر ، وفي الكتاب العزيز : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم    ) . فجعل اجتناب الكبائر مكفرا ، وروي أن الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ، وأن الجمعة كذلك ، وأن رمضان كذلك ، وإذا حصل التكفير بإحدى هذه لا تكون الأخرى مكفرة ، وإلا يلزم تحصيل الحاصل وهو محال . 
جوابه : معناه أن كل واحد منها شأنه التكفير ، فإن فعل شيئا كفر ، وإلا فلا ينتفي كونه من شأنه ذلك . 
وفي الجواهر : يستحب صوم تاسوعاء ويوم التروية ، وقد ورد صوم يوم التروية كصيام سنة ، وصوم الأشهر الحرم ، وشعبان ، وعشر ذي الحجة ، وقد روي أن صيام كل يوم منها يعدل سنة ، وفي  مسلم     : " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال  كأنما صام الدهر كله   " . واستحب  مالك  صيامها في غيره خوفا من إلحاقها برمضان عند الجهال ، وإنما عينها الشرع من شوال للخفة على المكلف بسبب قربه من الصوم ، وإلا فالمقصود حاصل في غيره ، فيشرع التأخير جمعا بين   [ ص: 531 ] مصلحتين ، ومعنى قوله : " فكأنما صام الدهر أن الحسنة بعشرة ، فالشهر بعشرة أشهر ، والستة بستين كمال السنة ، فإذا تكرر ذلك في السنين فكأنما صام الدهر . 
سؤال : يشترط في التشبيه المساواة أو المقاربة ، وهاهنا ليس كذلك ; لأن هذا الصوم عشر صوم الدهر ، والأجر على قدر العمل ، ولا مقاربة بين عشر الشيء وكله . 
جوابه : معناه فكأنما صام الدهر أن لو كان من غير هذه الأمة ، فإن شهرنا بعشرة أشهر لمن كان قبلنا ، والستة بشهرين لمن كان قبلنا ، فقد حصلت المساواة من كل وجه . 
تنبيه : 
هذا الأجر مختلف الأجر ، فخمسة أسداسه أعظم أجرا لكونه من باب الواجب ، وسدسه ثواب النفل . 
فائدة : إنما قال : بست بالتذكير ، ولم يقل بستة رعيا للأصل ، فوجب تأنيث المذكر في العدد ; لأن العرب تغلب الليالي على الأيام لسبقها : فتقول لعشر مضين من الشهر ، واستحب  مالك  ثلاثة أيام من كل شهر ، فكان يصومها أوله وعاشره والعشرين وهي الأيام البيض  ، واختار  أبو الحسن  تعجيلها أول الشهر وهي صيام الدهر ; لأن الثلاثة بثلاثين كما تقدم . 
فائدة : قال  ابن الجواليقي  في إصلاح ما تغلط فيه العامة : تقول الأيام البيض فيجعلون البيض وصفا للأيام ، والصواب أيام البيض أي : أيام الليالي البيض بحذف الموصوف وإقامة الوصف مقامه ، وإلا فالأيام كلها بيض ، والليالي البيض   [ ص: 532 ] ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ; لأنها بيض بالقمر . وأسماء ليالي الشهر عشرة لكل ثلاث اسم ؛ الثلاث الأول غرر ; لأن غرة كل شيء أوله ، والثانية نفل مثل زحل ; لأنها زيادة على الغرر - والنفل الزيادة ، وثلاث تسع ; لأن آخرها تاسع ، وثلاث عشر ; لأن أولها عاشر ، ووزنها مثل زحل أيضا ، وثلاث تبع وثلاث درع كزحل أيضا ; لاسوداد أوائلها وابيضاض سائرها ، وثلاث ظلم كزحل أيضا ; لأن كلا منها مظلم ، وثلاث حنادس لسوادها . . . . . لأنها بقايا ، وثلاث محاق لإمحاق القمر أو الشمس . 
وكره  مالك  صوم الدهر  لئلا يصادف نذرا أو غيره ، واستحبه  أبو الطاهر  ، قال  سند     : أجازه  مالك  إذا أفطر الأيام المنهي عنها ، وقاله ( ش ) و ( ح ) ; لما في  أبي داود     : أن  حمزة الأسلمي  قال له - صلى الله عليه وسلم - : " إني رجل أسرد الصوم ; أفأصوم في السفر ؟ فقال : صم إن شئت   " فيحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من صام الدهر لا صام   - على من لا يفطر ما نهي عنه ، فإن نذره فأفطر ناسيا ، قال  عبد الملك     : لا شيء عليه لتعذر القضاء ; فإن تعمد الفطر فعليه كفارة المفطر يوما في رمضان ، وقال   سحنون     : إطعام مسكين ، وقياس المذهب الإثم فقط . 
وكره  مالك  تخصيص وسط الشهر بصوم  ، واستحب  أبو حنيفة  صوم الخامس عشر ويومين قبله ، ورويت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنها الأيام البيض والغر . واستحب السابع والعشرين من رجب ، فيه بعث الله محمدا    - صلى الله عليه وسلم - ، وخمسة وعشرين من ذي القعدة فيه أنزلت الكعبة  على آدم    - عليه السلام - ومعها الرحمة ، وثالث المحرم فيه دعا زكريا  ربه واستجاب له ، وصوم شعبان ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر صومه فيه ، وفيه ترفع الأعمال ، وصيام يوم نصفه وقيام ليلته . 
وفي الكتاب : لا أحب للمرأة التي تعلم حاجة زوجها إليها أن تصوم إلا بإذنه ; لما في  أبي داود  قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصوم المرأة وبعلها شاهد  إلا بإذنه   " . قال  سند     : فلو أذن لها لم يكن له إبطاله ، وله إن لم يأذن ، وأم الولد والسرية كذلك   [ ص: 533 ] قاله  مالك  ، وقال  ابن حبيب     : لا إذن له على إمائه ولا ذكور عبيده إلا أن يضعفهم عن الخدمة ، وليس للزوج تفطير زوجته الذمية في صومها الواجب في دينها - قاله  ابن القاسم     . 
وفي الكتاب : إنما يؤمر الصبيان بالصوم بعد البلوغ  ، بخلاف الصلاة - خلافا للشافعية ، قال  سند     : وروى  أشهب  يؤمرون عند القدرة ، وصومهم شرعي عندنا ، وقال ( ح ) : إمساك للتمرين ، وقاله في الصلاة . 
لنا قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سألته المرأة عن الصغير : ألهذا حج ؟ قال : " نعم ، ولك أجر   " ، وقياسا على صوم البالغ ، وإذا قلنا : يصوم عند القدرة فأفطر وهو يقدر ، أمر بالقضاء عند   ابن الماجشون  ، وعلى قول   سحنون  في الصبية تجامع فتصلي بغير غسل ، لا تقضي ما خرج وقته من الصلاة ولا تقضي الصوم ; فإن أفطر عجزا ; أمر بالقضاء عند  عبد الملك  ، وأن لا يقضي أحسن . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					