الركن الثالث : الجناية نفسها ، وهي العقل ; ويتمهد فقهه ببيان العمد ، والخطأ ، وشبه العمد ، وكلها إما مباشرة أو تسببا ، أو هما ، أو بطريان أحدهما على الآخر والشركة فيها ، فهذه ثمانية أقسام    . 
القسم الأول : العمد    . في الجواهر : العمد ما قصد فيه إتلاف النفس ، وكان مما يقتل غالبا من محدد ، أو مثقل ، أو بإصابة المقاتل  ، كعصر الأنثيين ، أو شده وضغطه ، أو يهدم عليه بنيانا ، أو يصرعه ويجر برجله على غير اللعب ، أو يغرقه ، أو يحرقه ، أو يمنعه من الطعام والشراب ، وأما اللطمة واللكزة ; فتتخرج على الروايتين في شبه العمد ، في نفيه وإثباته ، وفي الكتاب : إن طرحه في نهر ولا يعلم أنه يحسن العوم على وجه العداوة ، قتل ، أو على غير ذلك ، ففيه الدية ، وإن تعمد ضربه بلطمه ، أو بلكزه ، أو غير ذلك ، ففيه القود ، ومن العمد ما لا قود فيه كالمتصارعين والمتراميين على وجه اللعب ، أو يأخذ برجله على وجه اللعب ، ففيه دية الخطأ على العاقلة أخماسا ، فإن تعمد هؤلاء القتل بذلك ففيه القصاص . وفي التنبيهات : قيل هذا إذا كانا معا يتفاعلان ذلك ، كل واحد منهما مع الآخر ،   [ ص: 280 ] وهو ظاهر لفظه ، أما إذا فعل أحدهما على وجه اللعب ، والآخر لم يلاعبه ولا رماه ، فالقصاص ، قاله  مالك     . وقيل : سواء اللعب وغيره منهما أو من أحدهما ، وهو الصواب ، والتفريق بعيد إذا عرف قصد اللعب ، وتكون رواية  عبد الملك     : أنه ذلك كالخطأ خلافا ، وكذلك اختلف في الأدب والعقل الجامع كالحاكم ، والجلاد ، والمؤدب ، والأب ، والزوج ، والخاتن ، والطبيب ، فقيل : كالخطأ ويدخلهما الاختلاف في شبه العمد ، قال  اللخمي  عن  ابن وهب     : دية اللعب مغلظة الأخماس . 
القسم الثاني : الخطأ . وفي الجواهر : الخطأ    : ما لا قصد فيه للفعل ، كما لو سقط على غيره ، أو ما لا قصد فيه للفعل إلى الشخص ، كما لو رمى صيدا فقتل إنسانا ، وظن الإباحة تصير العمد خطأ ; كقاتل رجل في أرض الحرب غلبة وفي الكفار وهو مسلم ، فلا قصاص ، وفيه الكفارة والدية ، أو قتل رجلا عمدا يظنه ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص ، فلا قصاص . 
القسم الثالث : شبه العمد    . وفي التنبيهات : هو ما أشكل أنه أريد به القتل ولم يره  مالك  إلا في الآباء مع أبنائهم ، وغيره يرى فيه الدية مطلقا مثلثة عند ( ش ) ومربعة عند ( ح ) ، وصفته عندهم في غير الآباء : أن يضربه عمدا على وجه الفائدة والغضب ، ولا يقصد قتله ، وبغير آلة كالسوط والعصا ( قال  اللخمي     : شبه العمد أربعة أقسام : بغير آلة كالسوط والعصا ) والبندقة إلا أن يقوم دليل العمد لقوة الضربة ، أو بآلة القتل ممن لا يتهم كالأبوين ، أو ممن . . . كالطبيب ، وصفته . . . ) وتقدم بسط منع إرادته كالمصارع . قال في المقدمات : إن قصد   [ ص: 281 ] الفعل دون القتل فثلاثة أقسام : لعب ، وأدب ، وفائدة . ففي الأول : ثلاثة أقوال ، قال  ابن القاسم     : هو خطأ ، وروايته عن  مالك  في الكتاب ، وروى  عبد الملك     : هو عمد يقتص به ، وتأول الأول على أن صاحبه لاعبه ، وبقي الخلاف ، والظاهر : ثبوته ، والثالث ،  ابن وهب     : هو شبه العمد ، تغلظ ديته على الجاني في ماله : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، والتفرقة بين أن يلاعبه أم لا ، قول رابع ، وفي الأدب تجري الثلاثة الأقوال الأول ، وقال  الباجي     : إنما يختلف في تغليظ الدية ولا قصاص بحال ، وهذا إذا علم أنه ضربه أدبا ، وإن لم يعلم ذلك إلا من قوله ، ففي تصديقه قولان : إن الظاهر يقتضي القصاص ، وفي النائرة قولان : المشهور : القصاص إلا في الأب والأم والجد ، وعنه : لا قصاص ، وهو شبه العمد ، فعله فيه الدية ، وعليه أكثر أهل العلم ( ش ) و ( ح ) وغيرهما ، واختلفوا هل يختص بالتعيين ؟ قاله ( ح ) وصاحباه ، أم لا ، واختلفوا في صفته ، فقال ( ح ) : لا يقتص إلا فيمن قتل بحديدة أو ضهطة الغضب أو النار ، وقيل : لا يقتص إلا في الحديدة  ، وإن قصد القتل فقسمان : غيلة فيقتل على كل حال ; لأنه حرابة ، ونائرة ، خير الولي في القصاص والعفو إلا لمن يقتل بعد أخذ الدية ، فقيل : لا يجوز للولي العفو ، بقوله تعالى : ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم    ) ، وعن النبي عليه السلام : ( لا أعفي رجلا قتل بعد أخذ الدية   ) هذا نص المقدمات . والشافعية يسمونه عمد الخطأ ، والجناية شبه العمد . واحتج الأئمة على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم في  أبي داود  وغيره : ( ألا إن دية الخطأ في شبه العمد ما كان بالسوط والعصا : مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها  [ ص: 282 ]   - ويروى - : ألا إن في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا : مائة من الإبل   ) وفسره الأئمة بالضرب بما لا يقتل غالبا ، كالعصا الصغير والسوط ونحوه . وقال القاضي في المعونة : اجتمع شبه العمد ; لأنه ضربه بما لا يقتل غالبا ، وشبه الخطأ ، لأنه لم يقصد القتل ، فلم يعط حكم أحدها ، فغلظت الدية . واحتج أصحابنا بأن الله تعالى لم يذكر في كتابه العزيز إلا العمد والخطأ ، ولو كان ثالث لذكره لقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء    ) . 
القسم الرابع : في بيان المباشرة    . وفي الجواهر : هي ما يترتب عليه زهوق الروح بغير واسطة    ; كحز الرقبة ، أو بواسطة ; كالجراحات المفضية للموت ، أو ما يقوم مقامها كالخنق والحرق والتغريق وشبهه ، وتحديده : ما يعده أهل العادة علة الزهوق من غير واسطة . 
القسم الخامس : السبب  ، وفي الجواهر : هو كحفر البئر حيث لا يؤذن له قصد الإهلاك ، والإكراه ، وشهادة الزور في القصاص على إحدى الروايتين ، وتقديم الطعام المسموم للضيف ، وحفر بئر في الدهليز ، وتغطيته عند دخول الداخل أو حفره ليقع فيه ، ثم وقع فيه غيره ، وضابطه : ما تشهد العادة أنه لا يكفي في زهوق الروح ، وأن له مدخلا فيه . 
القسم السادس : اجتماع السبب والمباشرة  ، وله ثلاث رتب : 
الرتبة الأولى : تغليب السبب على المباشرة ، وفي الجواهر : هو ظاهر إذا لم تكن المباشرة عدوانا كحفر بئر على طريق الأعمى ليس فيها غيره ، ولا طريق له غيرها ، أو طرحه مع سبع في مكان ضيق أو أمسكه على ثعبان مهلك ، أو قدم الطعام المسموم ، أو غطى رأس البئر في الدهليز ، واتفقت الرواية على تغليب السبب في شهود القصاص إذا رجعوا بعد الاستيفاء والولي غير عالم بالتزوير ، وإلا   [ ص: 283 ] فالولي معهم شريك ; لاعتدال السبب مع السبب مع المباشرة . وعن  مالك     : إن حدد قصبا أو عيدانا في باب الجنان لتدخل في رجل الداخل من سارق أو غيره : فيه الدية دون القود ; لأنه فعله في ملكه . قال  أشهب     : وكذلك إن حفر بئرا في أرضه ; ليسقط فيه سارق أو طارق ، وكذلك إن جعل على حائطه شركا ، فإنه يضمن . قال  محمد     : إن تمادى بالإشارة بالسيف عليه وهو يهرب - وهو عدوه - فهرب حتى مات ، فالقصاص ، وإن مات من أول الإشارة ، فالدية على عاقلته ، وقال  ابن القاسم     : إن طلبه بالسيف فما زال يجري حتى مات ، يقسم ولاته ، لمات من خوفه ، ويقتل ، وإن أشار فقط فمات ، وبينهما عداوة ، فهو من الخطأ ، وقال  عبد الملك     : إن طلبه بالسيف فعثر فمات ، فالقصاص ، وقاله  ابن القاسم  ، وقال   ابن ميسر     : لا قصاص في هؤلاء ; لأنه قد يكون مات من شدة الجري لا من الخوف ، أو منهما ، ولا يمكن القصاص إلا على نفي شبهة العمد ، واستحسنه جماعة من القرويين ، وإن طرح عليه حية لا يلبث لديغها على غير وجه اللعب ، مثل تعود الجرأة ، قتل به ، ولا يصدق في إرادة اللعب ، وإنما اللعب ما يفعله الشباب بعضهم ببعض ، فإنهم لا يعرفون غائلة أنواع الحيات ، فهذا خطأ . قال  ابن يونس     : إن قال له : اقطع يدي أو يد عبدي فعلى المأمور العقوبة لحق الله تعالى ، ولا غرم عليه في الحر ولا غيره للإذن . 
الرتبة الثانية : أن تغلب المباشرة لسبب ، كحافر البئر في داره لنفع نفسه فردى فيها رجل رجلا فالقود على المردي دون الحافر تغليبا للمباشرة لعدم العدوان في السبب ، وتحقق فيه . 
الرتبة الثالثة : اعتدال السبب والمباشرة فيقتص منها ; كالإكراه على الفعل ، يقتل المكره لقوة إلجائه ، والمكره لأنه المباشر ، ويلحق به من تتعذر مخالفته ، كالسيد   [ ص: 284 ] يأمر عبده ، والسلطان يأمر رجلا ، فأما الأب يأمر ولده ، والمعلم يأمر صبيا ، والصانع بعض متعلميه ، والمأمور محتلم ، قتل وحده دون الآمر ، أو غير محتلم ، قتل الآمر لقوة إلجائه لضعف جنان الصبي ، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية لمشاركته ، قاله  ابن القاسم  ، وقال  ابن نافع     : لا يقتل الأب ولا السيد ، وإن أمر أعجميا ، أما من تخاف مخالفته ، فيقتل المأمور دون الآمر ، ويضرب الآمر ويحبس ، فإن أمسك القاتل اقتص منهما للاعتدال ، وشرط  القاضي أبو عبد الله البصري  من أصحابنا في الممسك أن يعلم أنه لولاه لم يقدر الآخر على القتل ، وكالحافر عدوانا مع المردي ، كمن حفر بئرا ليقع فيها رجل فردى ذلك الرجل فيها غير الحافر . قال القاضي  أبو الحسن     : يقتلان للاعتدال ، وقال القاضي  أبو عبد الله بن هرون     : يقتل المردي دون الحافر ، تغليبا للمباشرة ، وكشهود القصاص مع الوالي كما سبق بيانه . 
فرع : 
في الكتاب : إن سقاه سما  قتل به بقدر ما يرى الإمام . قال  ابن يونس     : قال  ابن حبيب     : إن قال : سقاني سما وقد تقيأ منه ، ( أو لم يتقيأ ) فمات منه ففيه القسامة ( ولا يقاد من ساقي السم ، وإن شهد شاهدان أنه سقاه سما ، ففيه القسامة ) قال  أصبغ     : إن قدمت إليه امرأته طعاما فلما أكله تقيأ أمعاءه مكانه ، فأشهد أنها امرأته وخالتها فلانة ، فإن أقرت امرأته أن الطعام أتت به خالتها ففيه القسامة ، وقوله : امرأتي وخالتها ، يكفي ، وإن لم يقل منه أموت ، فإذا ثبت قوله بشاهدين أقسموا على إحدى المرأتين فتقتل ، ولا ينفع المرأة قولها : خالتي أتتني به ، وتضرب الأخرى مائة وتحبس سنة . 
 [ ص: 285 ] فرع : 
في الكتاب : إذا دفع لصبي دابة يهيئها ، أو سلاحا فمات بذلك  فديته على عاقلته ، ويعتق رقبة ، وإن حمله على دابته يمسكها ، فوطئت رجلا فقتلته ، فالدية على عاقلة الصبي ; لأنه المحرك للدابة بركوبه عليها ، ولا رجوع لعاقلته على العاقلة الأخرى . 
القسم السابع : في طريان المباشرة على المباشرة فيقدم الأقوى ، فإن جرح الأول وحز الثاني الرقبة اقتص من الثاني ، أو أنفذ الأول المقاتل وأجهز الثاني ، اقتص من الأول بغير قسامة ، وبولغ في عقوبة الثاني ، قاله  ابن القاسم  ، وعنه : يقتل المجهز ويعاقب الأول ، وإن اجتمعوا على ضربه فقطع هذا يده ، وقلع الآخر عينه ، وجدع الآخر أنفه ، وقتله آخر ، وقد اجتمعوا على قتله فمات مكانه ; قتلوا به ; لاشتراكهم فيه ، وإن كان جرح بعضهم أنكى ، ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمدوا المثلة مع القتل ، وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل بجرحه ، وقتل قاتله ، وإن قتل مريضا مشرفا قتل . 
القسم الثامن : في الشركة في الموجب ، وفي الجواهر : كما إذا حفر بئرا فانهارت عليهم فمات أحدهما : قال  أشهب     : على عاقلة الآخر نصف الدية ، وكما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات ، فيجب له أرش ما يقابل فعل الغير . 
				
						
						
