[  أصح الأسانيد      ] واعلم أنه  لا يلزم من الحكم بالصحة في سند خاص الحكم بالأصحية لفرد مطلقا   ، بل ( المعتمد إمساكنا ) أي : كفنا ( عن حكمنا على سند ) معين ( بأنه أصح ) الأسانيد ( مطلقا ) كما صرح به غير واحد من أئمة الحديث .  
وقال  النووي     : إنه المختار ; لأن تفاوت مراتب الصحيح مترتب على تمكن الإسناد من شروط الصحة ، ويعز وجود أعلى درجات القبول من الضبط والعدالة ونحوهما في كل فرد فرد من رواة الإسناد ، من ترجمة واحدة بالنسبة لجميع الرواة الموجودين في عصره ; إذ لا يعلم أو يظن أن هذا الراوي حاز أعلى      [ ص: 34 ] الصفات حتى يوازى بينه وبين كل فرد من جميع من عاصره .  
( وقد خاض ) إذ اقتحم الغمرات ( به ) أي : بالحكم بالأصحية المطلقة ( قوم ) فتكلموا في ذلك ، واضطربت أقوالهم فيه لاختلاف اجتهادهم ( فقيل ) كما ذهب إليه إمام الصنعة   البخاري     : أصح الأسانيد ما رواه (  مالك     ) نجم السنن القائل فيه   ابن مهدي     : لا أقدم عليه في صحة الحديث أحدا .  
 والشافعي     : إذا جاء الحديث عنه فاشدد يدك به ، كان حجة الله على خلقه بعد التابعين ( عن ) شيخه (  نافع     ) القائل في حقه  أحمد  عن  سفيان     : أي حديث أوثق من حديثه ؟ !  
( بما ) أي : بالذي ( رواه ) له ( الناسك ) أي : العابد ( مولاه ) أي :  مولى نافع  ، وهو سيده   عبد الله بن عمر بن الخطاب     - رضي الله عنهما - والمولى يطلق على كل من المعتق والمعتق ، وكان جديرا بالوصف بالنسك ; لأنه كان من التمسك بالآثار النبوية بالسبيل المتين .  
وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - :  نعم الرجل  عبد الله  ، لو كان يصلي من الليل  ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ،  وقال  جابر     - رضي الله عنه - : ( ما منا أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها ، إلا هو )     .  
( واختر ) إذا جنحت لهذا أو زدت راويا بعد  مالك     ( حيث عنه يسند ) إمامنا (   الشافعي     ) [ بالسكون أي : اختر هذا فـ ( حيث ) وما بعده في موضع المفعول ] ، فقد روينا عن   أحمد بن حنبل  قال : ( كنت سمعت ( الموطأ ) من بضعة عشر رجلا من      [ ص: 35 ] حفاظ أصحاب  مالك  ، فأعدته على   الشافعي     ; لأني وجدته أقومهم به ) . انتهى  
بل هو أجل من جميع من أخذه عن  مالك  ، رحمهما الله .  
قال الأستاذ  أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي     : ( إنه - أي : هذا الإسناد - أجل الأسانيد لإجماع أصحاب الحديث ) ، أنه لم يكن في الرواة عن  مالك  أجل من   الشافعي     ( قلت و ) اختر كما قاله الصلاح العلائي شيخ المصنف ، إن زدت بعد   الشافعي  أحدا حيث ( عنه ) يسند (  أحمد     ) وهو حقيق بالإلحاق .  
فقد قال   الشافعي     : إنه خرج من  بغداد   وما خلف بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه . ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذه الترجمة قيل لها : " سلسلة الذهب " .  
فإن قيل : فلم أكثر  أحمد  في مسنده من الرواية عن   ابن مهدي  ،   ويحيى بن سعيد  حيث أورد حديث  مالك  ؟ ولم لم يخرج   البخاري  ومسلم  وغيرهما من أصحاب الأصول ما أوردوه من حديث  مالك  من جهة   الشافعي  عنه ؟  
أمكن أن يقال عن  أحمد  بخصوصه : لعل جمعه المسند كان قبل سماعه من   الشافعي  ، وأما من عداه فلطلب العلو ، وقد أوردت في هذا الموضع من النكت أشياء مهمة .  
منها إيراد الحديث الذي أورده الشارح بهذه الترجمة بإسناد كنت فيه كأني أخذته عنه ، فأحببت إيراده هنا تبركا .  
 [ ص: 36 ] أخبرني به  أبو زيد عبد الرحمن بن عمر المقدسي الحنبلي  في كتابه ،  والعز أبو محمد عبد الرحيم بن محمد المصري الحنفي  سماعا .  
قال الأول : أخبرنا  أبو عبد الله محمد بن أبي الفداء بن الخيار  إذنا ، أنا أبو  الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن مكي القيسي الدمشقي     .  
وقال الثاني : أخبرنا  أبو العباس أحمد بن محمد بن الجوخي  في كتابه ، أخبرتنا  أم أحمد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحرانية  قالا : أخبرنا  أبو علي حنبل بن عبد الله الرصافي  ، أخبرنا  أبو القاسم هبة الله بن الحصين الشيباني  ، أخبرنا  أبو علي الحسن بن علي التميمي الواعظ  ، أخبرنا   أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي  ، أنا   أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني  ، حدثني أبي ، حدثنا   محمد بن إدريس الشافعي  ، أخبرنا  مالك  ، عن  نافع  ، عن   ابن عمر     - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :  لا يبع بعضكم على بيع بعض ، ونهى عن النجش ، ونهى عن حبل الحبلة ، ونهى عن المزابنة ، والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلا ، وبيع الكرم بالزبيب كيلا     .  
وهو مما اتفقا عليه من حديث  مالك  إلا الجملة الثالثة ، فهي من أفراد   البخاري  ، فوقع لنا بدلا لهما مساويا .  
( وجزم ) الإمام  أحمد ( بن   [ ص: 37 ] حنبل     ) نسبة لجده ، فاسم أبيه  محمد  ، حين تذاكر في ذلك مع جماعة بأجودية رواية الإمام   أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي ( الزهري ) المدني  القائل فيه   الليث بن سعد  رحمهما الله : ما رأيت عالما أجمع منه ، ولا أكثر علما .  
لو سمعته يحدث في الترغيب لقلت : لا يحسن إلا هذا ، أو الأنساب فكذلك ، أو عن القرآن والسنة فحديثه جامع .  
( عن   سالم ) هو ابن عبد الله بن عمر  الذي قال فيه   ابن المسيب     : إنه كان أشبه ولد أبيه به ،  ومالك     : إنه لم يكن في زمنه أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه ( أي ) مما رواه  سالم     ( عن أبيه )  عبد الله بن عمر     ( البر ) بفتح الموحدة ; لأنه كان دأبه العمل الصالح .  
ووافق  أحمد  على مذهبه في ذلك   إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه  ، لكن معبرا بالأصحية ، ولا فرق بين اللفظين اصطلاحا ، ولذا قرن شيخنا تبعا للشارح بين الرجلين في حكاية الأصحية ، نعم الوصف بجيد عند الجهبذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح .  
( وقيل ) كما ذهب إليه   عبد الرزاق بن همام  ،   وأبو بكر بن أبي شيبة  ، إن صح عنه ،   والنسائي  لكنه أدرجه مع غيره : أصح الأسانيد ما رواه ( زين العابدين ) واسمه : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قال فيه  مالك     : بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة حتى      [ ص: 38 ] مات . ( عن أبه ) بحذف المثناة التحتانية على لغة النقص ; كقوله :  بأبه اقتدى عدي في الكرم     .  
وهو  السيد الحسين  الشهيد سبط الرسول - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا ( عن )   علي بن أبي طالب     ( جده ) أي : جد   زين العابدين     ( و ) ذلك مما رواه (   ابن شهاب ) الزهري     ( عنه ) أي : عن   زين العابدين     ( به ) أي : بالسند المذكور ، فهذه أقوال ثلاثة .  
ولأجل تنويع الخلاف في ذلك يقال : أصح الأسانيد إما ما تقدم ، ( أو فـ ) ما رواه (   ابن سيرين ) أبو بكر محمد الأنصاري البصري  التابعي الشهير بكثرة الحفظ والعلم والإتقان وتعبير الرؤيا ، والذي قال فيه مؤرق : ما رأيت أفقه في ورعه ، ولا أورع في فقهه منه .  
( عن )  أبي عمرو عبيدة - بفتح العين - ( السلماني     ) - بسكون اللام على الصحيح ، حي من مراد - الكوفي التابعي الذي كاد أن يكون صحابيا ، فإنه أسلم قبل الوفاة النبوية ، وكان فقيها يوازي شريحا في الفضائل ، بل كان شريح يراسله فيما يشكل عليه .  
قال   ابن معين     : ( إنه ثقة لا يسأل عن مثله ) .  
( عنه ) يعني عن  علي  صاحب الترجمة التي قبلها . وهو قول   عمرو بن علي الفلاس  ، وكذا   علي بن المديني   وسليمان بن حرب  بزيادة   أيوب السختياني     ; حيث قالا : أصح الأسانيد :  أيوب  عن   ابن سيرين  إلى آخره .  
وجاء مرة أخرى عن أولهما بإبدال  عبد الله بن عون  من السختياني ، وبأجود من      [ ص: 39 ] أصح ، وهما كما تقدم سواء ، وممن ذهب إلى أصحية  أيوب  مع باقي الترجمة   النسائي  ، لكن مع إدراج غيره .  
( أو ) ما رواه  أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي ( الأعمش     ) الإمام الحافظ الثقة الذي كان  شعبة  يسميه لصدقه ( المصحف ) ( عن ) الفقيه المتوفى الصالح .  
( ذي الشأن )   أبي عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس ( النخعي     ) بفتح النون والمعجمة ، نسبة  للنخع   ، قبيلة من  مذحج   ، الكوفي  
( عن ) راهب أهل  الكوفة   عبادة وعلما وفضلا وفقها . (   ابن قيس علقمة     ) أي : عن   علقمة بن قيس     ( عن   ابن مسعود     )  أبي عبد الرحمن عبد الله     - رضي الله عنه - وهو قول   ابن معين  ، وكذا قاله غيره ، لكن بإبدال   منصور بن المعتمر  من   الأعمش     .  
فقال  عبد الرزاق     : ( حدث  سفيان  عن  منصور  بهذه الترجمة ، فقال : هذا المشرف على الكراسي ) ، بل سئل   ابن معين  أيهما أحب إليك في  إبراهيم     :   الأعمش  أو  منصور  ؟ ، فقال : (  منصور     ) .  
ووافقه غيره على ذلك ، فقال  أبو حاتم     - وقد سئل عنهما - :   الأعمش  حافظ يخلط ويدلس ،  ومنصور  أتقن لا يخلط ولا يدلس ، لكن قال   وكيع     : ( إن   الأعمش  أحفظ لإسناد  إبراهيم  من  منصور     ) .  
وفي المسألة أقوال أخر أوردت منها في النكت مما لم يذكر هنا ما يزاحم عشرين قولا ، والاعتناء بتتبعها يفيد أحد أمرين : إما ترجيح ما عورض منها بذلك على غيره ، أو تمكن الناظر المتقن فيها من ترجيح بعضها على بعض بالنظر لترجيح القائلين إن تهيأ .  
 [ ص: 40 ]    [ كتاب عن  أصح الأسانيد      ] وقد أفرد الناظم في الأحكام كتابا لطيفا جمعه من تراجم ستة عشر قيل فيها : إنها أصح الأسانيد ، إما مطلقا أو مقيدا ، وهي ما عدا الثالثة مما ذكر هنا ،  ومالك  عن  أبي الزناد  عن   الأعرج  ،  ومعمر  عن  همام  ،   والزهري  عن   سعيد بن المسيب  ،   ويحيى بن أبي كثير  عن  أبي سلمة  ، كل من الأربعة عن   أبي هريرة ،  وعبد الرحمن بن القاسم   ، وعبيد الله بن عمر  مما رواه   يحيى بن سعيد  عنه ، كل منهما عن  القاسم  ،   والزهري  عن  عروة  ، كل منهما عن  عائشة  ،  ومالك  عن   الزهري  عن  أنس     .  
 والحسين بن واقد  عن   عبد الله بن بريدة  عن أبيه ،   وابن عيينة  عن   عمرو بن دينار  عن  جابر  ،   والليث بن سعد  عن   يزيد بن أبي حبيب  عن  أبي الخير  عن   عقبة بن عامر  ،   والزهري  عن  سالم  عن أبيه عن جده  عمر  ، وحينئذ فهو من أصح الصحيح .  
( و ) على كل حال ( لم ) كما زاده المصنف ، بضم اللام أي : اعذل واعتب ( من عممه ) أي : الذي عمم الحكم بالأصحية لسند معين ; لأنه حصر في باب واسع جدا شديد الانتشار ، والحاكم فيه على خطر من الخطأ والانتقاض .  
كما قيل بمثله في قولهم : ليس في الرواة من اسمه كذا سوى فلان ، بل إن كان ولا بد فتقيد كل ترجمة بصحابيها ، أو بالبلد التي منها أصحاب تلك الترجمة ، فهو أقل انتشارا أو أقرب إلى حصر ، كما قيل في أفضل التابعين ، وأصح الكتب ، وأحاديث الباب ، فيقولون : أصح أحاديث باب كذا أو مسألة كذا حديث كذا .  
واعلم أنهم كما تكلموا في أصح أسانيد فلان ، مشوا في أوهى أسانيد فلان أيضا ، وفائدته ترجيح بعض الأسانيد على بعض ، وتمييز ما يصلح للاعتبار      [ ص: 41 ] مما لا يصلح ، ولكن هذا المختصر يضيق عن بسط ذلك وتتماته ، فليراجع أصله بعد تحريره ، إن شاء الله تعالى .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					