[  دلائل النسخ      ] ( ثم بنص الشارع ) - صلى الله عليه وسلم - على إبطال أحد الدليلين المتعارضين وتصريحه بذلك ; كقوله : هذا ناسخ ، أو في ما معناه ; كقوله : (  كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة     ) . وكرجم  ماعز  دون جلده بعد قوله : (  الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة     ) . كما ذكره  ابن السمعاني  وغيره . ( أو ) بنص ( صاحب ) من أصحابه رضي الله عنهم صريحا ; كقول  جابر  رضي الله عنه : (  كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار     ) . أو أن أحدهما شرع  بمكة   ، والآخر  بالمدينة      . ( أو ) بغيرهما ، وذلك كأن ( عرف التاريخ ) للخبرين المتعذر الجمع بينهما ، وتأخر أحدهما عن الآخر ، وأمثلته كثيرة . ( أو أجمع تركا ) ; أي : على ترك العمل بمضمون الحديث . ( بان ) ; أي : ظهر بكل واحد من هذه الأربعة التي هي نص الشارع أو الصحابي أو العلم بالتاريخ أو الإجماع ، ( نسخ ) للحكم الآخر ، وأصرحها أولها .  
وأما ثالثها فمحله      [ ص: 53 ] في غير المتواترين . أما إذا في أحد المتواترين أنه كان متقدما على الآخر ففيه خلاف للأصوليين ، والأكثرون على عدم قبوله ، وبه جزم بعضهم ; لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد ، وهو غير واقع . وحجة الطرف الآخر أن النسخ إنما هو بالمتواتر ، وخبر الواحد معين للناسخ ، لا ناسخ ; لأنه علم أن أحدهما ناسخ ، والآخر منسوخ بدونه .  
وكذا محل ثانيهما فيما إذا كان مستنده النقل ، أو قال : القول بكذا منسوخ ، أو : هذا هو الناسخ . وكذا إن قال : هذا ناسخ ، وذكر دليله ، فإن لم يذكره واقتصر على قوله : هذا ناسخ ، أو : هذا نسخ لهذا ، لم يرجع إليه عند غير واحد من الأصوليين والفقهاء ; لاحتمال أنه قاله عن اجتهاد نشأ عن ظن ما ليس بنسخ نسخا ، لا سيما وقد اختلف العلماء في أسباب النسخ ، وهذا بناء على أن قوله رضي الله عنه ليس بحجة .  
ولكن قد أطلق   ابن الصلاح  تبعا لأهل الحديث القول بمعرفة النسخ بقول الصحابي ، بل وأطلقه   الشافعي  أيضا ; حيث ذكر الأدلة الأربعة ، فقال فيما رواه  البيهقي  في ( المدخل ) من طريقه : ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر ، أو بقول من سمع الحديث ، يعني من الصحابة أو العامة ، يعني الإجماع . وهو كما قال المصنف أوضح وأشهر ; إذ النسخ لا يصار إليه بالاجتهاد والرأي ، وإنما يصار إليه عند معرفة التاريخ ، والصحابة أورع من أن يحكم أحدهم على حكم شرعي بنسخ من غير أن يعرف تأخر الناسخ عنه .  
ليس من أمثلته ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارضا لمتقدم عنه بناء على الظاهر ; لتجويز سماع المتقدم بعد المتأخر .  
قال شيخنا : ولاحتمال أن يكون سمعه من صحابي آخر أقدم من المتقدم المذكور أو مثله فأرسله ، لكن إن وقع التصريح بسماعه له من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيتجه أن يكون ناسخا بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا قبل إسلامه .  
 [ ص: 54 ] وفيه نظر للتجويز السابق قريبا . وحينئذ فطرق كون حديث  شداد  المرفوع : (  أفطر الحاجم والمحجوم     ) منسوخا بحديث   ابن عباس  رضي الله عنه : ( أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم ) ; لكون   ابن عباس  إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر ،  وشداد  قيد حديثه في بعض طرقه ; إما بزمن الفتح كما في رواية ، وكان سنة ثمان ، وإما برمضان كما في أخرى ، وأيا ما كان فهو قبل حجة الوداع .  
أما الأول فواضح ، وأما الثاني فحجة الوداع لم يكن بعدها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - رمضان .  
احتمال أن يكون   ابن عباس  تحمله عن غيره من الصحابة ، على أن   الشافعي  قال : وإسناد الحديثين جميعا مشتبه . قال : وحديث   ابن عباس  أمثلهما إسنادا .  
( و ) أما رابعها فليس على إطلاقه في كون الإجماع ناسخا . بل العلماء من المحدثين والأصوليين إنما ( رأوا دلالة الإجماع ) على وجود ناسخ غيره ، بمعنى أن بالإجماع يستدل على وجود خبر معه يقع به النسخ ، وعليه ينزل نص   الشافعي  والأصحاب وسائر المطلقين ، ( لا ) أنهم رأوا ( النسخ به ) ; لأنه لا ينسخ بمجرده ; إذ لا ينعقد إلا بعد الرسول ، وبعده ارتفع النسخ ، وكذا لا ينسخ . ولذلك أمثلة كثيرة ; كنسخ رمضان صوم عاشوراء ، والزكاة وسائر الحقوق في المال ، و ( كـ ) حديث  معاوية  ،  وجابر  ،  وجرير  ،  وشرحبيل بن أوس  ،  والشريد بن أوس الثقفي  ،  وعبد الله بن عمرو  ،  وغطيف  ،  وأبي الرمداء  ،  وأبي سعيد  ،   وأبي هريرة  ، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - مرفوعا في ( القتل ) لشارب الخمر ( في ) مرة ( رابعة ) صدرت منه      [ ص: 55 ] بعد شربه ثلاث مرار قبلها ، أو في مرة خامسة ، كما في بعض الروايات ( بـ ) سبب ( شربه ) ; حيث حكى  الترمذي  في آخر جامعه الإجماع على ترك العمل به . ونحوه قول  الماوردي     : قتل الشارب في الخامسة انعقد الإجماع من الصحابة على خلافه ، ولا يخدش الإجماع بما رواه  أحمد   والحارث بن أبي أسامة  في مسنديهما من طريق   الحسن البصري  عن   عبد الله بن عمرو  أنه قال : ( ايتوني برجل أقيم عليه الحد ، يعني ثلاثا ، ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب ) .  
ولا بما أخرجه   سعيد بن منصور  مما هو أشد من هذا عن  ابن عمرو  أيضا أنه قال : ( لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته ) . ولا بحكاية القتل في الرابعة أيضا عن  عثمان  رضي الله عنه وعن   عمر بن عبد العزيز   والحسن البصري  ، فضلا عن كون  أهل الظاهر      ; منهم   ابن حزم  ، قالوا به ; لانقطاع أولهما ; فإن  الحسن  لم يسمع من  ابن عمرو  كما جزم به   ابن المديني  وغيره ، وللين سند ثانيهما بحيث لا يكون فيهما حجة ، كما أنه لا حجة فيما عداهما ; لعدم ثبوته .  
وأما خلاف  الظاهرية   فلا يقدح في الإجماع . وحينئذ فلم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك ، حتى ولو ثبت عن  ابن عمرو  أو غيره من الصحابة فمن بعدهم لكان العذر عنه أنه لم يبلغه النسخ ، وعد ذلك من ندرة الخلاف .  
ولوجود الخلاف في الجملة حكى  ابن المنذر  إجماع عوام أهل العلم في ترك القتل في الرابعة ، واستثنى شاذا موصوفا بأنه لا يعد ، بل وقوع الخلاف قديما لا يمنع حصول الإجماع بعد ذلك كما سلف في كتابة الحديث ، وهي طريقة مشهورة كما قال  البلقيني     . ويؤيده قول شيخنا في ( فتح الباري ) عقب حكاية قول  الترمذي     : وهو محمول على      [ ص: 56 ] من بعد ; لنقل غيره القول به ، وأشار لما تقدم .  
وممن حكى الإجماع أيضا  النووي  ، وقال : القول بالقتل قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمن بعدهم ، والحديث الوارد فيه منسوخ ; إما بحديث : (  لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث     ) . وإما بأن الإجماع دل على نسخه . انتهى .  
هذا كله مع ورود ناسخ من حديثي  جابر   وقبيصة بن ذؤيب  ، بحيث عمل بمضمونه   عمر بن الخطاب   وسعد بن أبي وقاص  ، ولكن ليس هذا محل الإطالة بها .  
قال  البلقيني     : ومن مثل معرفة النسخ بالإجماع الحديث الذي رواه  أبو داود  في سننه من حديث   أم سلمة  ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال  لوهب بن زمعة  ورجل آخر : (  إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء ، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به     ) . وإسناده جيد ، وإن كان فيه  محمد بن إسحاق  ، لكنه صرح بالتحديث .  
فهذا مما أجمع العلماء على ترك العمل به وأشباه ذلك ، على أن الإمام  أبا بكر الصيرفي  شارح ( الرسالة ) لم يجعل الإجماع دليلا على تعين المصير للنسخ ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط ; فإنه قال في كتابه ( الدلائل ) : فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو غلط - يعني من بعض رواته ، كما صرح به غيره - والآخر ثابت . قال المصنف : وما قاله محتمل .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					