( المسألة الثالثة : آراء المتكلمين والفلاسفة في حجة إبراهيم     ) 
ما ذكره الرازي  وغيره من مفسري المتكلمين في هذه المحاجة تكلف لا تدل عليه العبارة ، ولا يقتضيه العقل ، ولا تتوقف عليه الحجة ، وقد تقدم أنهم جعلوا مقولهم فيها على ذكر الأفول ، وكون وجه الحجة فيه دلالته على الإمكان والحدوث ، وقالوا : إن أحسن الكلام ما يحصل فيه نصيب لكل من الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان ، وكل ممكن محتاج ، والمحتاج لا يكون مقطع الحاجة ، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال : ( وأن إلى ربك المنتهى    ) ( 53 : 42 ) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث ، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر ، فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل ، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول فإنه يزول نوره وينقص ضوؤه ، ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية ( قال الرازي    ) بعد ما تقدم : فهذه الكلمة " لا أحب الآفلين " مشتملة على نصيب المقربين ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين . ثم ذكر الرازي  بعد هذا دقيقة استنبطها من مذهب علماء الفلك على عهده ، هي أعرق في التكلف من هذا التفصيل الذي جعل فيه الوجه الصحيح في الحجة نصيب العوام الذين سماهم أصحاب الشمال ، وهو يعلم أن أصحاب الشمال هم أهل النار ( فاعتبروا يا أولي الأبصار    ) . 
ثم قال الرازي    : تفلسف  الغزالي  في بعض كتبه ، وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب ، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك ، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك . وكان  أبو علي بن سينا  يفسر الأفول بالإمكان ( أي فهو عند الرازي  إمام المقربين ! ) فزعم  الغزالي  أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها ، وزعم أن المراد من قوله : ( لا أحب الآفلين    ) أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود . واعلم أن هذا الكلام لا بأس به إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه . ومن الناس من حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال والوهم ، والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاث قاصرة متناهية ، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها ، والله أعلم . انتهى كلام الرازي  ، وليس ما استحسنه من قبل - بل سماه أحسن الكلام - إلا مثل ما استبعد حمل الآية عليه من بعد أو هو أبعد وأجدر بالملام . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					