هذا وإن في المسألة مباحث نرجئ القول فيها إلى تفسير آيات السور الأخرى التي أشرنا إليها في سياق هذا الكلام ، ونختم الكلام هنا بمسألتين من متعلقاته :
( المسألة الأولى : حظر إيذاء الرسول أو آله بذكر أبويه أو عمه بسوء .
إذا علمت أن حكمة بيان كتاب الله تعالى وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكفر من ذكر وعذابهم في النار هي تقرير أساس الدين وهو التوحيد على أكمل وجه ، فاعلم أن الذي يطلب شرعا هو أن يذكر ذلك في مقام التعليم ، وهو يشمل قراءة القرآن وتفسيره ، ورواية الحديث وشرحه - ومنه أو مثله السيرة النبوية وتاريخ الإسلام - وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة ومن [ ص: 459 ] وافقهم من الفرق والرد على من خالفهم . ولا يجوز أن يتجاوز ذلك إلى ما يخل بالأدب ، ويؤذي الرسول أو آله بحسب أو نسب ، وناهيك بالأم والأب ، وبأبي طالب دون أبي لهب ، بل لا ينبغي أن يذكر أبو لهب بسوء موصوفا بكونه عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا في مقام التعليم والبيان الذي تقدم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : " استأذن حسان بن ثابت النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين ، قال : كيف بنسبي فيهم ؟ فقال حسان : لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين " أي : لأخلصن نسبك من أنسابهم حتى لا يصيبه من الهجو شيء ، وفي رواية أنه استأذنه في هجو أبي سفيان ، فقال : " كيف بقرابتي منه ؟ فأجاب حسان بنحو ما تقدم ، وقد كان أبو سفيان يومئذ أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم .
ومن هدي علماء السلف في ذلك واقعتان ، رويتا عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وناهيك بعلمه وهديه . ( إحداهما ) أنه أتي بكاتب يخط بين يديه ، وكان أبوه كافرا ، فقال للذي جاء به : لو كنت جئت به من أولاد المهاجرين ، فقال الكاتب : ما ضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر أبيه . فقال عمر : قد جعلته مثلا ! لا تخط بين يدي بقلم أبدا . ( ثانيتهما ) أنه قال لسليمان بن سعد : بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق . قال : وما يضره ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قد كان أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرا فما ضره . فغضب عمر غضبا شديدا وقال : ما وجدت له مثلا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فعزله عن الدواوين . ومنه أن الشافعي - رضي الله عنه - قال : وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة - أي يدها - لها شرف فكلم فيها ، فقال " لو سرقت فلانة - لامرأة شريفة - لقطعت يدها " وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - " لو سرقت فاطمة " فكنى الشافعي عن فاطمة - عليها السلام - ولم يذكر اسمها مبالغة في الأدب ، مع أن إسناد السرقة إليها في الحديث مفروض فرضا لا واقعا ، وهو يذكره في سياق الاستنباط من السنة الذي يجوز فيه ما هو أعظم من ذلك . ومن هذا القبيل : ما فعله أبو داود - رحمه الله تعالى - في حديث تعزية فاطمة - عليها السلام - في ميت وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها : " فلعلك بلغت معهم الكدى " أي المقابر ، قالت : معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر ، فقال لها كما في سنن النسائي : " لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " وأما أبو داود فرواه هكذا : قال : " لو بلغت معهم الكدى " فذكر تشديدا عظيما . اهـ . وقالوا : إنه ترك التصريح بآخر الحديث من باب الأدب .
فإن قيل : أي المحدثين خير عملا في هذا الحديث ؟ النسائي الذي رواه بلفظه ، وعمل بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ القول عنه كما سمع كما في حديث عبد الله بن مسعود عند أحمد والترمذي ، وما في معناه من الأمر بتبليغ الشاهد الغائب في خطبة حجة الوداع كما في [ ص: 460 ] الصحيحين وغيرهما ، أم أبو داود الذي راعى الأدب بحذف ما حذف ؟ فالجواب أن الذي جرى عليه حملة السنة ومبلغوها للأمة من السلف الصالح ، وهو وجوب تبليغ النص بلفظه على من حفظه ، أو بمعناه إذا وعاه ووثق بقدرته على أدائه ، ولهؤلاء الأعلام أعظم منة في عنق الأمة الإسلامية بنقل السنة إليها كما رووها ، وضبط متونها ، ووزن أسانيدها بميزان الجرح والتعديل المستقيم ، والشافعي وأبو داود رحمهما الله تعالى من أئمتهم . وإنما يحسن مثل ما روي عنهما من الأدب العالي مع بضعة الرسول سيدة النساء - عليها السلام - إذا كان لا يضيع به شيء من الحديث ، كذكره لمن يعلم الأصل المروي أو لمن لا مصلحة له في العلم بنصه ، والله أعلم ، ولو كان أئمة الحديث يستبيحون حذف شيء منها لما وثقنا بنقلهم ، ولكن علم ضد ذلك من سيرتهم ومن روايتهم للأحاديث المشكلة كغيرها ، ومن جرحهم لمن غير أو بدل ، أو حذف أو زاد أو نقص ، أو خالف الثقات في شيء من المتون وإن كان غرضه التعظيم ، والظاهر أن الشافعي وأبا داود قالا ما قالا عالمين بأنه لا يضيع من الحديث شيئا ؛ لأنه محفوظ مشهور .


