المسألة السابعة : اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة  ، والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة ، فلا يطلع عليه الإمام ، ولا يضعه مع الغنيمة . 
قال بعض العلماء : يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح ، وهو مذهب  الإمام أحمد  ، وبه قال الحسن  وفقهاء الشام  ، منهم مكحول  ،  والأوزاعي  ، والوليد بن هشام  ،  ويزيد بن يزيد بن جابر  ، وأتى سعيد بن عبد الملك  بغال فجمع ماله وأحرقه ،  وعمر بن عبد العزيز  حاضر ذلك فلم يعبه . 
وقال  يزيد بن يزيد بن جابر    : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله ، رواهما سعيد  في سنته ، قاله  ابن قدامة  في " المغني " . 
ومن حجج أهل هذا القول : ما رواه أبو داود  في سننه ، عن صالح بن محمد بن زائدة  قال أبو داود  وصالح هذا أبو واقد  قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم  ، فأتى برجل قد غل ، فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث ، عن  عمر بن الخطاب  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه   " ، قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه ، فقال : بعه وتصدق بثمنه . اهـ بلفظه من أبي داود    . 
وذكر  ابن قدامة  أنه رواه أيضا الأثرم  ، وسعيد  ، وقال أبو داود  أيضا : حدثنا أبو صالح   [ ص: 96 ] محبوب بن موسى الأنطاكي  ، قال : أخبرنا أبو إسحاق  عن صالح بن محمد  ، قال : غزونا مع الوليد بن هشام  ، ومعنا  سالم بن عبد الله بن عمر  ،  وعمر بن عبد العزيز  ، فغل رجل متاعا ، فأمر الوليد  بمتاعه فأحرق وطيف به ، ولم يعطه سهمه ، قال أبو داود    : وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد : أن الوليد بن هشام  أحرق رحل  زياد بن سعد  ، وكان قد غل ، وضربه . 
حدثنا  محمد بن عوف  ، قال : ثنا موسى بن أيوب  ، قال : ثنا  الوليد بن مسلم  ، قال : ثنا زهير بن محمد  ، عن  عمرو بن شعيب  ، عن أبيه ، عن جده : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر  ، وعمر  حرقوا متاع الغال وضربوه   " . 
قال أبو داود    : وزاد فيه  علي بن بحر    : عن الوليد  ، ولم أسمعه منه ، ومنعوه سهمه ، قال أبو داود    : وحدثنا به  الوليد بن عتبة  ، وعبد الوهاب بن نجدة  ، قالا : ثنا الوليد  ، عن زهير بن محمد  ، عن  عمرو بن شعيب  قوله ، ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي  منع سهمه ، اهـ من أبي داود  بلفظه ، وحديث صالح بن محمد  الذي ذكرنا عند أبي داود  أخرجه أيضا الترمذي  ، والحاكم  ، والبيهقي    . 
قال الترمذي    : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقال : سألت محمدا  عن هذا الحديث ، فقال : إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة  ، الذي يقال له  أبو واقد الليثي  ، وهو منكر الحديث . 
قال المنذري    : وصالح بن محمد بن زائدة    : تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وقد قيل : إنه تفرد به ، وقال  البخاري    : عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول ، وهو باطل ليس بشيء ، وقال  الدارقطني    : أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد  ، قال : وهذا حديث لم يتابع عليه ، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
والمحفوظ أن سالما  أمر بذلك ، وصحح أبو داود  وقفه ، فرواه موقوفا من وجه آخر ، وقال : هذا أصح كما قدمنا ، وحديث  عمرو بن شعيب  الذي ذكرنا عند أبي داود  ، أخرجه أيضا الحاكم  ، والبيهقي  ، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو الخراساني  ، وقد قال فيه ابن حجر  في " التقريب " : رواية أهل الشام   عنه غير مستقيمة ، فضعف بسببها ، وقال  البخاري  عن أحمد    : كان زهير  الذي يروي عنه الشاميون آخر ، وقال أبو حاتم    : حدث بالشام  من حفظه فكثر غلطه . اهـ . 
وقال البيهقي    : ويقال إنه غير الخراساني  ، وإنه مجهول . اهـ ، وقد علمت فيما قدمنا   [ ص: 97 ] عن أبي داود  ، أنه رواه من وجه آخر موقوفا على  عمرو بن شعيب  وقال ابن حجر    : إن وقفه هو الراجح . 
وذهب الأئمة الثلاثة ، مالك  ،  والشافعي  ، وأبو حنيفة    : إلى أنه لا يحرق رحله ، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال ، و بما رواه  الإمام أحمد  ، وأبو داود  ، عن  عبد الله بن عمرو  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ، ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر ، فقال : يا رسول الله ، هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة ، فقال : " أسمعت بلالا ينادي ثلاثا " ، قال : نعم ، قال : " فما منعك أن تجيء به ؟ " فاعتذر إليه ، فقال : " كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك   " ، هذا لفظ أبي داود  ، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود  ، والمنذري  ، وأخرجه الحاكم  وصححه . 
وقال  البخاري    : قد روي في غير حديث عن الغال ، ولم يؤمر بحرق متاعه ، فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى ، وهم أكثر العلماء . 
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة : هو ما اختاره ابن القيم  ، قال في " زاد المعاد " بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة : والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة ، فإنه حرق وترك ، وكذلك خلفاؤه من بعده ، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة ، فليس بحد ، ولا منسوخ ، وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام . اهـ . 
وإنما قلنا : إن هذا القول أرجح عندنا ; لأن الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة ، كما علم في الأصول ، والعلم عند الله تعالى . 
أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم ، أو وطئ جارية منها قبل القسم  ، فقال مالك  وجل أصحابه : يحد حد الزنى والسرقة في ذلك ; لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة ، بل بالقسم . 
وذهب الجمهور - منهم الأئمة الثلاثة - إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة ; لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد ، وبعض من قال بهذا يقول : إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به ، وهو قول أحمد  ،  والشافعي  ، خلافا لأبي حنيفة  ، وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى ، فقال : لا يحد للزنى ، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم . 
 [ ص: 98 ] وبهذا قال عبد الملك  من المالكية ، كما نقله عنه  ابن المواز    . 
واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة ، هل يورث عنه نصيبه  ؟ 
فقال مالك  في أشهر الأقوال ،  والشافعي    : إن حضر القتال : ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة ، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له . 
وقال أبو حنيفة    : إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة ، أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له ; لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك . 
وقال  الأوزاعي    : إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل الله ، قبل أو بعد ، أسهم له . 
وقال  الإمام أحمد    : إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له ; لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها ، وسواء مات حال القتال أو قبله ، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته . 
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا أظهر الأقوال عندي ، والله تعالى أعلم . 
ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك  رحمه الله في هذه المسألة مشكل ; لأن حكمه بحد الزاني والسارق ، يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم ، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال ، وهو كما ترى ، والعلم عند الله تعالى . 
				
						
						
