مسائل : 
الأولى : إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق ، أو دعوة إلى بدعة . هل يكون ذلك   [ ص: 29 ] سببا لعزله والقيام عليه أو لا  ؟ قال بعض العلماء : إذا صار فاسقا ، أو داعيا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه . والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان . 
فقد أخرج الشيخان في " صحيحيهما " عن  عبادة بن الصامت    - رضي الله عنه - قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال : " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " . 
وفي " صحيح مسلم    " من حديث  عوف بن مالك الأشجعي    - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " قالوا : قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : " لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يدا من طاعة   " . 
وفي " صحيح مسلم    " أيضا : من حديث  أم سلمة    - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :   " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع " . قالوا : يا رسول الله أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا " . 
وأخرج الشيخان في " صحيحيهما " من حديث  ابن عباس    - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ; فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت ، إلا مات ميتة جاهلية  " . 
وأخرج مسلم  في " صحيحه " من حديث  ابن عمر    - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية   " والأحاديث في هذا كثيرة . 
فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه ، ولو كان مرتكبا لما لا يجوز ، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه   [ ص: 30 ] كفر بواح ؛ أي : ظاهر باد لا لبس فيه . 
وقد دعا  المأمون  والمعتصم  والواثق  إلى بدعة القول : بخلق القرآن ، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل ، والضرب ، والحبس ، وأنواع الإهانة ، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك . ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل  الخلافة ، فأبطل المحنة ، وأمر بإظهار السنة . 
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى    . وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ، ولا مطعن كحديث  ابن عمر    - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة   " أخرجه الشيخان ، وأبو داود    . 
وعن  علي بن أبي طالب    - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار : " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا ; إنما الطاعة في المعروف   " وفي الكتاب العزيز : ( ولا يعصينك في معروف    ) [ 60 \ 12 ] . 
المسألة الثانية : هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر ؟  في ذلك ثلاثة أقوال : الأول : قول الكرامية  بجواز ذلك مطلقا محتجين بأن عليا  ومعاوية  كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه ، وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه . وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ، ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى . 
القول الثاني : قول جماهير العلماء من المسلمين : أنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم  ، بل يجب كونه واحدا ، وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله ، محتجين بما أخرجه مسلم  في " صحيحه " من حديث  أبي سعيد الخدري    - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما   " . 
ولمسلم  أيضا : من حديث عرفجة    - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق   [ ص: 31 ] جماعتكم فاقتلوه   " . وفي رواية : " فاضربوه بالسيف كائنا من كان   " . 
ولمسلم  أيضا من حديث  عبد الله بن عمرو بن العاص  رضي الله عنهما :   " ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " ثم قال : سمعته أذناي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعاه قلبي   . 
وأبطلوا احتجاج الكرامية  بأن معاوية  أيام نزاعه مع علي  لم يدع الإمامة لنفسه ، وإنما ادعى ولاية الشام  بتولية من قبله من الأئمة ، ويدل لذلك : إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما فقط لا كل منهما . وأن الاستدلال بكون كل منهما أقوم بما لديه ، وأضبط لما يليه ، وبجواز بعث نبيين في وقت واحد ، يرده قوله صلى الله عليه وسلم : " فاقتلوا الآخر منهما   " ; ولأن نصب خليفتين يؤدي إلى الشقاق وحدوث الفتن . 
القول الثالث : التفصيل ، فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة ، ويجوز في الأقطار المتنائية كالأندلس  وخراسان    . قال القرطبي  في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس  وخراسان  ، جاز ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . انتهى منه بلفظه . 
والمشار إليه في كلامه : نصب خليفتين ، وممن قال بجواز ذلك : الأستاذ أبو إسحاق  ، كما نقله عنه  إمام الحرمين  ، ونقله عنه ابن كثير  ، والقرطبي  في تفسير هذه الآية الكريمة . 
وقال ابن كثير    : قلت : وهذا يشبه حال الخلفاء ؛ بني العباس  بالعراق  ، والفاطميين  بمصر  ، والأمويين  بالمغرب    . 
المسألة الثالثة : هل للإمام أن يعزل نفسه ؟ 
 قال بعض العلماء : له ذلك . قال القرطبي    : والدليل على أن له عزل نفسه قول  أبي بكر الصديق  رضي الله عنه : أقيلوني أقيلوني ، وقول الصحابة رضي الله عنهم : لا نقيلك ولا نستقيلك . قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا فمن ذا يؤخرك ، رضيك   [ ص: 32 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاك ؟ 
قال : فلو لم يكن له ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ، ولقالت له : ليس لك أن تقول هذا . 
وقال بعض العلماء : ليس له عزل نفسه ; لأنه تقلد حقوق المسلمين فليس له التخلي عنها . 
قال مقيده عفا الله عنه : إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه ، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة ، فلا نزاع في جواز عزل نفسه . ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي    - رضي الله عنهما - بعزل نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية  ، بعد أن بايعه أهل العراق     ; حقنا لدماء المسلمين وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين   " أخرجه  البخاري  وغيره من حديث أبي بكر  رضي الله عنه . 
المسألة الرابعة : هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟  
قال بعض العلماء : لا يجب ; لأن إيجاب الإشهاد يحتاج إلى دليل من النقل . وهذا لا دليل عليه منه . وقال بعض العلماء : يجب الإشهاد عليه ; لئلا يدعي مدع أن الإمامة عقدت له سرا ، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة . 
والذين قالوا بوجوب الإشهاد على عقد الإمامة ، قالوا : يكفي شاهدان خلافا للجبائي  في اشتراطه أربعة شهود وعاقدا ومعقودا له ، مستنبطا ذلك من ترك عمر  الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد ، وهو  عبد الرحمن بن عوف  ومعقود له ، وهو عثمان  وبقي الأربعة الآخرون شهودا ، ولا يخفى ضعف هذا الاستنباط كما نبه عليه القرطبي  وابن كثير  ، والعلم عند الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					