أرأيت الذي يكذب بالدين   فذلك الذي يدع اليتيم  ولا يحض على طعام المسكين    . 
الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء ، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع ، فالتعجب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوق ; لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام ، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثارا للتعجب فيترقب السامع ماذا يرد بعده وهو قوله : فذلك الذي يدع اليتيم    . 
وفي إقحام اسم الإشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كمال تمكن . 
وأصل ظاهر الكلام أن يقال : أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين . 
والإشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته ، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه . 
والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في   [ ص: 565 ] الحكم المقصود من الكلام ، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحدا مثل قوله تعالى : والصافات صفا  فالزاجرات زجرا  فالتاليات ذكرا    . 
فمعنى الآية عطف صفتي : دع اليتيم ، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين . 
وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنافيا لما تقتضيه الحكمة من التكليف ، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء . 
وجيء في ( يكذب ، يدع ، ويحض ) بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه . 
وهذا إيذان بأن الإيمان بالبعث والجزاء  هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة التي يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى أمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وأمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النكراء . 
والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصر المشاهد . 
وقرأ نافع  بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من ( أرأيت ) ألفا . وروى المصريون عن  ورش  عن نافع  إبدالها ألفا وهو الذي قرأنا به في تونس  ، وهكذا في فعل ( رأى ) كلما وقع بعد الهمزة استفهام وذلك فرار من تحقيق الهمزتين ، قرأ الجمهور بتحقيقها . 
وقرأه  الكسائي  بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل . 
واسم الموصول وصلته مراد بهما جنس من اتصف بذلك . وأكثر المفسرين درجوا على ذلك . 
وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ،  وقيل : في الوليد بن المغيرة   [ ص: 566 ] المخزومي ،  وقيل : في عمرو بن عائذ المخزومي ،  وقيل : في  أبي سفيان بن حرب  قبل إسلامه بسبب أنه كان ينحر كل أسبوع جزورا فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا . وقيل : في أبي جهل    : كان وصيا على يتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا . 
والذين جعلوا السورة مدنية قالوا : نزلت في منافق لم يسموه ، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ، ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصصا حكمها بما نزلت بسببه . 
ومعنى ( يدع ) يدفع بعنف وقهر ، قال تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا    . 
والحض : الحث ، وهو أن تطلب غيرك فعلا بتأكيد . 
والطعام : اسم الإطعام ، وهو اسم مصدر مضاف إلى مفعوله إضافة لفظية . ويجوز أن يكون الطعام مرادا به ما يطعم كما في قوله تعالى : فانظر إلى طعامك وشرابك  فتكون إضافة طعام إلى المسكين معنوية على معنى اللام ، أي : الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور بـ ( على ) تقديره : على إعطاء طعام المسكين . 
وكني بنفي الحض عن نفي الإطعام ; لأن الذي يشح بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح كما تقدم في قوله : ولا تحاضون على طعام المسكين  في سورة الفجر ، وقوله : ولا يحض على طعام المسكين  في سورة الحاقة . 
والمسكين : الفقير ، ويطلق على الشديد الفقر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين  في سورة التوبة . 
				
						
						
