[ ص: 147 ] الله لا إله إلا هو الحي القيوم   نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل  من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان    . 
ابتدئ الكلام بمسند إليه خبره فعلي : لإفادة تقوية الخبر اهتماما به . 
وجيء بالاسم العلم : لتربية المهابة عند سماعه ، ثم أردف بجملة لا إله إلا هو  ، جملة معترضة أو حالية ، ردا على المشركين ، وعلى النصارى  خاصة . وأتبع بالوصفين الحي القيوم  لنفي اللبس عن مسمى هذا الاسم ، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلهية ، وأن غيره لا يستأهلها ; لأنه غير حي أو غير قيوم ، فالأصنام لا حياة لها ، وعيسى  في اعتقاد النصارى  قد أميت ، فما هو الآن بقيوم ، ولا هو في حال حياته بقيوم على تدبير العالم ، وكيف وقد أوذي في الله ، وكذب ، واختفى من أعدائه . وقد مضى القول في معنى الحي القيوم  في تفسير آية الكرسي . 
وقوله نزل عليك الكتاب  خبر عن اسم الجلالة . والخبر هنا مستعمل في الامتنان ، أو هو تعريض ونكاية بأهل الكتاب : الذين أنكروا ذلك . وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوية الخبر ، أو للدلالة - مع ذلك - على الاختصاص : أي الله لا غيره نزل عليك الكتاب . إبطالا لقول المشركين : إن القرآن من كلام الشيطان ، أو من طرائق الكهانة ، أو يعلمه بشر . 
والتضعيف في ( نزل ) للتعدية فهو يساوي الهمز في ( أنزل ) وإنما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كميته ، في الفعل المتعدي بغير التضعيف ، من أجل أنهم قد أتوا ببعض الأفعال المتعدية ، للدلالة على ذلك ، كقولهم : فسر وفسر ، وفرق وفرق ، وكسر وكسر ، كما أتوا بأفعال قاصرة بصيغة المضاعفة ، دون تعدية للدلالة على قوة الفعل ، كما قالوا : مات وموت وصاح وصيح . فإما إذا صار التضعيف للتعدية فلا أوقن بأنه يدل على تقوية الفعل ، إلا أن يقال : إن العدول عن التعدية بالهمز ، إلى التعدية بالتضعيف ، لقصد ما عهد في التضعيف من تقوية معنى الفعل ، فيكون قوله   [ ص: 148 ] نزل عليك الكتاب  أهم من قوله وأنزل التوراة  للدلالة على عظم شأن نزول القرآن ، وقد بينت ذلك مستوفى في المقدمة الأولى من هذا التفسير ، ووقع في الكشاف هنا وفي مواضع متعددة ، أن قال : إن " نزل " يدل على التنجيم وإن " أنزل " يدل على أن الكتابين أنزلا جملة واحدة وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المدعى للفعل المضاعف ، إلا أن يعني أن " نزل " مستعمل في لازم التكثير ، وهو التوزيع . ورده أبو حيان  بقوله تعالى وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة  فجمع بين التضعيف وقوله جملة واحدة    . وأزيد أن التوراة والإنجيل نزلا مفرقين كشأن كل ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة ، وهو الحق ; إذ لا يعرف أن كتابا نزل على رسول دفعة واحدة . 
والكتاب : القرآن . والباء في قوله " بالحق " للملابسة ، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى وبالحق أنزلناه وبالحق نزل    . 
ومعنى مصدقا لما بين يديه  أنه مصدق للكتب السابقة له ، وجعل السابق بين يديه : لأنه يجيء قبله . فكأنه يمشي أمامه . 
و التوراة اسم للكتاب المنزل على موسى  عليه السلام . وهو اسم عبراني أصله " طورا " بمعنى " الهدى " ، والظاهر أنه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى  عليه السلام في جبل الطور ;  لأنها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى ،  فأطلق ذلك الاسم على جميع كتب موسى ،  واليهود  يقولون " سفر طورا " فلما دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصاف والنكرات لتصير أعلاما بالغلبة : مثل العقبة ،  ومن أهل اللغة والتفسير من حاولوا توجيها لاشتقاقه اشتقاقا عربيا ، فقالوا : إنه مشتق من الوري وهو الوقد ، بوزن تفعلة أو فوعلة ، وربما أقدمهم على ذلك أمران : أحدهما دخول حرف التعريف عليه ، وهو لا يدخل على الأسماء العجمية ، وأجيب بأن لا مانع من دخولها على المعرب كما قالوا : الإسكندرية ،  وهذا جواب غير صحيح ; لأن الإسكندرية  وزن عربي ; إذ هو نسب إلى إسكندر ،  فالوجه في الجواب أنه إنما ألزم التعريف لأنه معرب عن اسم بمعنى الوصف - اسم علم - فلما عربوه ألزموه اللام لذلك . 
 [ ص: 149 ] الثاني أنها كتبت في المصحف بالياء ، وهذا لم يذكروه في توجيه كونه عربيا ، وسبب كتابته كذلك الإشارة إلى لغة إمالته . 
وأما الإنجيل فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى  عليه السلام فجمعه أصحابه . 
وهو اسم معرب . قيل : من الرومية وأصله ( إثانجيليوم ) أي الخبر الطيب ، فمدلوله مدلول اسم الجنس ، ولذلك أدخلوا عليه كلمة التعريف في اللغة الرومية ، فلما عربه العرب أدخلوا عليه حرف التعريف ، وذكر القرطبي  عن الثعلبي  أن الإنجيل في السريانية وهي الآرامية ( أنكليون ) ولعل الثعلبي  اشتبه عليه الرومية بالسريانية ، لأن هذه الكلمة ليست سريانية وإنما لما نطق بها نصارى العراق   ظنها سريانية ، أو لعل في العبارة تحريفا وصوابها اليونانية وهو في اليونانية ( أووانيليون ) أي اللفظ الفصيح . 
وقد حاول بعض أهل اللغة والتفسير جعله مشتقا من " النجل " وهو الماء الذي يخرج من الأرض ، وذلك تعسف أيضا . وهمزة الإنجيل مكسورة في الأشهر ليجري على وزن الأسماء العربية ; لأن إفعيلا موجود بقلة مثل إبزيم . وربما نطق به بفتح الهمزة ، وذلك لا نظير له في العربية . 
و من قبل يتعلق بـ " أنزل " ، والأحسن أن يكون حالا أولى من التوراة والإنجيل ، و ( هدى ) حال ثانية . والمضاف إليه " قبل " محذوف منوي معنى ، كما اقتضاه بناء " قبل " على الضم ، والتقدير من قبل هذا الزمان ، وهو زمان نزول القرآن . 
وتقديم من قبل على هدى للناس للاهتمام به . وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهم أن هدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن . وفيه إشارة إلى أنها كالمقدمات لنزول القرآن ، الذي هو تمام مراد الله من البشر إن الدين عند الله الإسلام  ، فالهدى الذي سبقه غير تام . 
و ( للناس ) تعريفه إما للعهد : وهم الناس الذين خوطبوا بالكتابين ، وإما للاستغراق العرفي : فإنهما وإن خوطب بهما ناس معروفون ، فإن ما اشتملا عليه يهتدي به كل من أراد أن يهتدي ، وقد تهود وتنصر كثير ممن لم تشملهم دعوة موسى  وعيسى  عليهما السلام ، ولا يدخل في العموم الناس الذين دعاهم محمد    - صلى الله عليه وسلم - : لأن القرآن   [ ص: 150 ] أبطل أحكام الكتابين ، وأما كون شرع من قبلنا شرعا لنا عند معظم أهل الأصول ، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين ، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه . 
و الفرقان في الأصل مصدر فرق كالشكران والكفران والبهتان ، ثم أطلق على ما يفرق به بين الحق والباطل قال تعالى وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان  وهو يوم بدر    . وسمي به القرآن . قال تعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده  والمراد بالفرقان هنا القرآن ; لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وفي وصفه بذلك تفضيل لهديه على هدي التوراة والإنجيل ; لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدى ، لما فيها من البرهان ، وإزالة الشبهة . وإعادة قوله وأنزل الفرقان  بعد قوله نزل عليك الكتاب بالحق  للاهتمام ، وليوصل الكلام به في قوله إن الذين كفروا بآيات الله  الآية أي بآياته في القرآن . 
				
						
						
