وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون  وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها  هذا كشف شبهة أخرى من شبه تكذيبهم ، إذ كانوا يسألون النبيء أن يأتيهم بآيات على حسب اقتراحهم ، ويقولون : لو كان صادقا ، وهو يطلب منا أن نؤمن به لجاءنا بالآيات التي سألناه ; غرورا بأنفسهم أن الله يتنازل لمباراتهم . 
والجملة معطوفة على جملة وإن من قرية إلا نحن مهلكوها  الآية ، أي إنما أمهلنا المتمردين على الكفر إلى أجل نزول العذاب ، ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات ; لعدم جدوى إرسال الآيات للأولين من قبلهم في الكفر على حسب اقتراحهم فكذبوا بالآيات . 
وحقيقة المنع : كف الفاعل عن فعل يريد فعلته ، أو يسعى في فعله ، وهذا محال عن الله تعالى ; إذ لا مكره للقادر المختار ، فالمنع هنا مستعار للصرف عن الفعل ، وعدم إيقاعه دون محاولة إتيانه . 
والإرسال يجوز أن يكون حقيقة فيكون مفعول أن نرسل  محذوفا دل عليه فعل نرسل ، والتقدير : أن نرسل رسولنا ، فالباء في قوله بالآيات   [ ص: 143 ] للمصاحبة ، أي مصاحبا للآيات التي اقترحها المشركون ، ويجوز أن يكون الإرسال مستعارا لإظهار الآيات وإيجادها ، فتكون الباء مزيدة لتأكيد تعلق فعل نرسل بالآيات  ، وتكون الآيات مفعولا في المعنى كقوله تعالى وامسحوا برءوسكم    . 
والتعريف في الآيات على كلا الوجهين للعهد ، أي المعهودة من اقتراحهم كقولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا  ، و قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى  و قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله  على أحد التأويلين . 
و ( أن ) الأولى مفيدة مصدرا منصوبا على نزع الخافض ، وهو من التي يتعدى بها فعل المنع ، وهذا الحذف مطرد مع ( أن ) . 
و ( أن ) الثانية مصدرها فاعل منعنا على الاستثناء المفرغ . 
وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين بالآيات مجاز عقلي ; لأن التكذيب سبب الصرف . 
والمعنى : أننا نعلم أنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن من قبلهم من الكفرة لما جاءتهم أمثال تلك الآيات ، فعلم الناس أن الإصرار على الكفر سجية للمشرك لا يقلعها إظهار الآيات ، فلو آمن الأولون عندما أظهرت لهم الآيات ; لكان لهؤلاء أن يجعلوا إيمانهم موقوفا على إيجاد الآيات التي سألوها ، قال تعالى ( إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ) . 
والأظهر أن هذا تثبيت لأفئدة المؤمنين ; لئلا يفتنهم الشيطان ، وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان قومه ، فلعله يتمنى أن يجيبهم الله لما سألوا من الآيات ، ولحزنه من أن يظنوه كاذبا . 
وجملة وآتينا ثمود الناقة  في محل الحال من ضمير الجلالة في منعنا ، أي وقد آتينا ثمودا آية كما سألوا فزادوا كفرا بسببها حتى عجل لهم العذاب    . 
 [ ص: 144 ] ومعنى مبصرة واضحة الدلالة ، فهو اسم فاعل أبصر المتعدي إلى مفعول ، أي جعل غيره مبصرا وذا بصيرة ، فالمعنى : أنها مفيدة البصيرة ، أي اليقين ، أي تجعل من رآها ذا بصيرة وتفيده أنها آية ، ومنه قوله تعالى فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين    . 
وخص بالذكر ثمود وآيتها ; لشهرة أمرهم بين العرب ، ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من أهل مكة  يبصرها صادرهم وواردهم في رحلاتهم بين مكة والشام . 
وقوله فظلموا بها  يجوز أن يكون استعمل الظلم بمعنى الكفر ; لأنه ظلم النفس ، وتكون الباء للتعدية ; لأن فعل الكفر يعدى إلى المكفور بالباء ، ويجوز أن يكون الظلم مضمنا معنى الجحد ، أي كابروا في كونها آية ، كقوله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا  ، ويجوز بقاء الظلم على حقيقته ، وهي الاعتداء بدون حق ، والباء صلة لتوكيد التعدية مثل الباء في وامسحوا برءوسكم  ، أي ظلموا الناقة حين عقروها ، وهي لم تجن عليهم ، فكان عقرها ظلما ، والاعتداء على العجماوات ظلم إذا كان غير مأذون فيه شرعا كالصيد . 
				
						
						
