القول في تأويل قوله تعالى : ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين    ( 10 ) ) 
يقول - تعالى ذكره - : قل يا محمد  لهؤلاء المشركين القائلين لهذا القرآن لما جاءهم هذا سحر مبين ( أرأيتم ) أيها القوم ( إن كان ) هذا القرآن ( من عند الله   ) أنزله علي ( وكفرتم ) أنتم ( به ) يقول : وكذبتم أنتم به . 
وقوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وشهد شاهد من بني إسرائيل  ، وهو موسى بن عمران  عليه السلام على مثله ، يعني على مثل القرآن ، قالوا : ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى  بالتصديق التوراة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا  ابن المثنى  قال : ثنا عبد الوهاب  قال : ثنا داود  ، عن عامر  ، عن مسروق  في هذه الآية : ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة  ، التوراة مثل القرآن ، وموسى  مثل محمد   - صلى الله عليه وسلم - . 
حدثنا  محمد بن المثنى  قال : ثنا عبد الأعلى  قال : سئل داود  ، عن قوله :  [ ص: 103 ]  ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به   ) . . . الآية ، قال داود  قال عامر  قال مسروق   : والله ما نزلت في  عبد الله بن سلام  ، ما أنزلت إلا بمكة  ، وما أسلم عبد الله  إلا بالمدينة  ، ولكنها خصومة خاصم محمد   - صلى الله عليه وسلم - بها قومه ، قال : فنزلت ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم   ) قال : فالتوراة مثل القرآن ، وموسى  مثل محمد   - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا بالتوراة وبرسولهم ، وكفرتم . 
حدثنا أبو كريب  قال : ثنا ابن إدريس  قال : سمعت  داود بن أبي هند  ، عن الشعبي  قال : أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل  على مثله  عبد الله بن سلام  ، وإنما أسلم  عبد الله بن سلام  بالمدينة   ; وقد أخبرني مسروق  أن آل حم ، إنما نزلت بمكة  ، وإنما كانت محاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه ، فقال : ( أرأيتم إن كان من عند الله   ) يعني القرآن ( وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن   ) موسى  ومحمد  عليهما الصلاة والسلام على الفرقان . 
حدثني أبو السائب  قال : ثنا ابن إدريس  ، عن داود  ، عن الشعبي  قال : إن ناسا يزعمون أن الشاهد على مثله :  عبد الله بن سلام  ، وأنا أعلم بذلك ، وإنما أسلم عبد الله  بالمدينة  ، وقد أخبرني مسروق  أن آل حم إنما نزلت بمكة  ، وإنما كانت محاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه ، فقال : ( قل أرأيتم إن كان من عند الله   ) يعني الفرقان ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) فمثل التوراة الفرقان ، التوراة شهد عليها موسى  ، ومحمد  على الفرقان صلى الله عليهما وسلم . 
حدثني يعقوب  قال : ثنا  ابن علية  قال : أخبرنا داود  ، عن الشعبي   . عن مسروق  في قوله ( قل أرأيتم إن كان من عند الله   ) الآية ، قال : كان إسلام ابن سلام  بالمدينة  ونزلت هذه السورة بمكة  إنما كانت خصومة بين محمد  عليه الصلاة والسلام وبين قومه ، فقال : ( نذير مبين قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) قال : التوراة مثل الفرقان ، وموسى  مثل محمد  ، فآمن به واستكبرتم ، ثم قال : آمن هذا الذي من بني إسرائيل  بنبيه وكتابه ، واستكبرتم أنتم ، فكذبتم أنتم نبيكم وكتابكم ، ( إن الله لا يهدي   ) . . . إلى قوله ( هذا إفك قديم   ) . 
وقال آخرون : عنى بقوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   )  عبد الله بن سلام  ، قالوا : ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل  على مثل هذا القرآن بالتصديق ، قالوا : ومثل القرآن التوراة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني يونس  قال : ثنا عبد الله بن يوسف التنيسي  قال : سمعت مالك بن أنس  يحدث عن أبي النضر  ، عن  عامر بن سعد بن أبي وقاص  ، عن أبيه ، قال : ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا  لعبد الله بن سلام;  قال : وفيه نزلت ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) . 
حدثنا الحسين بن علي الصدائي  قال : ثنا  أبو داود الطيالسي  قال : ثنا شعيب بن صفوان  قال : ثنا  عبد الملك بن عمير  ، أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام  قال : قال عبد الله :  أنزل في ( قل أرأيتم إن كان من عند الله   ) . . . إلى قوله ( فآمن واستكبرتم   ) . 
حدثني علي بن سعد بن مسروق الكندي  قال : ثنا أبو محمد بن يحيى بن يعلى  ، عن  عبد الملك بن عمير  ، عن ابن أخي عبد الله بن سلام  قال : قال  عبد الله بن سلام   : نزلت في ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين   ) . 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله ( قل أرأيتم إن كان من عند الله   ) . . . الآية ، قال : كان رجل من أهل الكتاب آمن بمحمد   - صلى الله عليه وسلم -  [ ص: 105 ] فقال : إنا نجده في التوراة ، وكان أفضل رجل منهم ، وأعلمهم بالكتاب ، فخاصمت اليهود  النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أترضون أن يحكم بيني وبينكم عبد الله بن سلام " ؟ " أتؤمنون" ؟ قالوا : نعم ، فأرسل إلى  عبد الله بن سلام ،  فقال : " أتشهد أني رسول الله مكتوبا في التوراة والإنجيل ؟" قال : نعم ، فأعرضت اليهود  ، وأسلم  عبد الله بن سلام  ، فهو الذي قال الله - جل ثناؤه - عنه ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم   ) يقول : فآمن  عبد الله بن سلام   . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  ، وحدثني 
الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  في قوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) قال :  عبد الله بن سلام   . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( قل أرأيتم إن كان من عند الله   ) . . . الآية ، كنا نحدث أنه  عبد الله بن سلام  آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام ، وكان من أحبار اليهود   . 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا ابن ثور  ، عن معمر ،  عن قتادة  في قوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) ؟ قال : هو  عبد الله بن سلام   . 
حدثت عن الحسين  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : أخبرنا عبيد  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله : ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) الشاهد :  عبد الله بن سلام  ، وكان من الأحبار من علماء بني إسرائيل  ، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود  ، فأتوه ، فسألهم فقال : " أتعلمون أني رسول الله تجدونني مكتوبا عندكم في التوراة" ؟ قالوا : لا نعلم ما تقول ، وإنا بما جئت به كافرون ، فقال : " أي رجل  عبد الله بن سلام  عندكم" ؟ قالوا : عالمنا وخيرنا ، قال : " أترضون به بيني وبينكم" ؟ قالوا : نعم ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى  عبد الله بن سلام  ، فجاءه ، فقال : " ما شهادتك يا ابن  [ ص: 106 ] سلام" ؟  قال : أشهد أنك رسول الله ، وأن كتابك جاء من عند الله ، فآمن وكفروا ، يقول الله تبارك وتعالى ( فآمن واستكبرتم   ) . 
حدثنا  محمد بن بشار  قال : ثنا محمد بن جعفر  قال : ثنا عوف  ، عن الحسن  قال : بلغني أنه لما أراد  عبد الله بن سلام  أن يسلم قال : يا رسول الله ، قد علمت اليهود  أني من علمائهم ، وأن أبي كان من علمائهم ، وإني أشهد أنك رسول الله ، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة ، فأرسل إلى فلان وفلان ، ومن سماه من اليهود  ، وأخبئني في بيتك ، وسلهم عني ، وعن أبي ، فإنهم سيحدثونك أني أعلمهم ، وأن أبي من أعلمهم ، وإني سأخرج إليهم ، فأشهد أنك رسول الله ، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة ، وأنك بعثت بالهدى ودين الحق ، قال : ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخبأه في بيته وأرسل إلى اليهود  ، فدخلوا عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما  عبد الله بن سلام  فيكم" ؟ قالوا : أعلمنا نفسا . وأعلمنا أبا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أرأيتم إن أسلم تسلمون" ؟ قالوا : لا يسلم ثلاث مرار ، فدعاه فخرج ، ثم قال : أشهد أنك رسول الله ، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة ، وأنك بعثت بالهدى ودين الحق ، فقالت اليهود   : ما كنا نخشاك على هذا يا  عبد الله بن سلام  قال : فخرجوا كفارا ، فأنزل الله - عز وجل - في ذلك ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم   ) . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم   ) قال : هذا  عبد الله بن سلام  ، شهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتابه حق ، وهو في التوراة حق ، فآمن واستكبرتم . 
حدثني أبو شرحبيل الحمصي  قال : ثنا أبو المغيرة  قال : ثنا  صفوان بن عمرو  ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير  ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك  [ ص: 107 ] الأشجعي  قال : انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه ، حتى دخلنا كنيسة اليهود  بالمدينة  يوم عيد لهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر اليهود  أروني اثني عشر رجلا يشهدون أنه لا إله إلا هو ، وأن محمدا  رسول الله ، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه" قال : فأسكتوا فما أجابه منهم أحد ، ثم ثلث فلم يجبه أحد ، فانصرف وأنا معه ، حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من خلفنا : كما أنت يا محمد  ، قال : فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود  ، قالوا : والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله ، ولا أفقه منك ، ولا من أبيك ، ولا من جدك قبل أبيك ، قال : فإني أشهد بالله أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تجدونه في التوراة والإنجيل ، قالوا كذبت ، ثم ردوا عليه قوله وقالوا له شرا ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كذبتم لن نقبل قولكم ، أما آنفا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم ، وأما إذ آمن كذبتموه وقلتم ما قلتم ، فلن نقبل قولكم" ، قال : فخرجنا ونحن ثلاثة : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ،  وعبد الله بن سلام  ، فأنزل الله فيه : ( قل أرأيتم إن كان من عند الله   ) . . . الآية . 
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق  في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل ، لأن قوله ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   ) في سياق توبيخ الله - تعالى ذكره - مشركي قريش  ، واحتجاجا عليهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها ، ولم يجر لأهل الكتاب  ولا لليهود  قبل ذلك ذكر ، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت ، ولا دل على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك عنى به  عبد الله بن سلام  وعليه أكثر أهل التأويل ، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن ، والسبب الذي فيه نزل ، وما أريد به . 
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك ، وشهد  عبد الله بن سلام  ، وهو الشاهد من بني  [ ص: 108 ] إسرائيل  على مثله ، يعني على مثل القرآن ، وهو التوراة ، وذلك شهادته أن محمدا  مكتوب في التوراة أنه نبي تجده اليهود  مكتوبا عندهم في التوراة ، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي . 
وقوله ( فآمن واستكبرتم   ) يقول : فآمن  عبد الله بن سلام  ، وصدق بمحمد   - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله ، واستكبرتم أنتم على الإيمان بما آمن به  عبد الله بن سلام  معشر اليهود   ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين   ) يقول : إن الله لا يوفق لإصابة الحق ، وهدى الطريق المستقيم القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم لها سخط الله بكفرهم به . 
				
						
						
