( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات  والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم   ( 79 ) ) 
وهذه أيضا من صفات المنافقين : لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا . كما قال  البخاري   : 
حدثنا عبيد الله بن سعيد  ، حدثنا أبو النعمان البصري  ، حدثنا شعبة  ، عن سليمان  ، عن أبي وائل  ، عن أبي مسعود  قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا . فنزلت ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم   ) الآية  . 
وقد رواه مسلم  أيضا في صحيحه ، من حديث شعبة  به . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا يزيد  ، حدثنا الجريري  ، عن أبي السليل  قال : وقف علينا رجل في  [ ص: 186 ] مجلسنا بالبقيع  فقال : حدثني أبي - أو : عمي أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع  ، وهو يقول : من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة ؟ قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين ، وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم ، فعقدت على عمامتي . فجاء رجل لم أر بالبقيع  رجلا أشد سوادا [ ولا ] أصغر منه ولا أدم ، ببعير ساقه ، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، أصدقة ؟ قال : نعم ، فقال : دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه . قال : فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كذبت بل هو خير منك ومنها ثلاث مرات ، ثم قال : ويل لأصحاب المئين من الإبل ثلاثا . قالوا : إلا من يا رسول الله ؟ قال : إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ، ثم قال : قد أفلح المزهد المجهد ثلاثا : المزهد في العيش ، المجهد في العبادة  . 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس  في هذه الآية ، وقال : جاء عبد الرحمن بن عوف  بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل من الأنصار  بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن  بما جاء به إلا رياء . وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع  . 
وقال العوفي  ، عن ابن عباس   : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم . فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء ، حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا . وما يصنعان بصاعك من شيء . ثم إن عبد الرحمن بن عوف  قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل بقي أحد من أهل الصدقات ؟ فقال : لا ، فقال له عبد الرحمن بن عوف   : فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له  عمر بن الخطاب   - رضي الله عنه - : أمجنون أنت ؟ قال : ليس بي جنون . قال : فعلت ما فعلت ؟ قال : نعم ، مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت . ولمزه المنافقون فقالوا : والله ما أعطى عبد الرحمن  عطيته إلا رياء . وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله - عز وجل - عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال تعالى في كتابه : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات   ) الآية  . 
وكذا روي عن مجاهد ، وغير واحد . 
وقال ابن إسحاق   : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف  ، تصدق  [ ص: 187 ] بأربعة آلاف درهم ، وعاصم بن عدي  أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقات ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف  فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم  فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده : أبو عقيل  أخو بني أنيف الإراشي  حليف بني عمرو بن عوف  ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل   . 
وقال  الحافظ أبو بكر البزار   : حدثنا طالوت بن عباد  ، حدثنا أبو عوانة  ، عن عمر بن أبي سلمة  ، عن أبيه ، عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا . قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف  فقال : يا رسول الله ، عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي ، وألفين لعيالي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت . وبات رجل من الأنصار  فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ، أصبت صاعين من تمر : صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ! وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم [ سخر الله منهم ]   ) الآية  . 
ثم رواه عن أبي كامل  ، عن أبي عوانة  ، عن عمر بن أبي سلمة  ، عن أبيه مرسلا قال : ولم يسنده أحد إلا طالوت   . 
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير   : حدثنا ابن وكيع  ، حدثنا  زيد بن الحباب  ، عن موسى بن عبيدة  ، حدثني خالد بن يسار  ، عن ابن أبي عقيل  ، عن أبيه قال : بت أجر الجرير على ظهري ، على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر أتقرب [ به ] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فقال : انثره في الصدقة . قال : فسخر القوم وقالوا : لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين . فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات   ) الآيتين . 
 [ ص: 188 ] وكذا رواه  الطبراني  من حديث  زيد بن الحباب  به . وقال : اسم أبي عقيل   : حباب   . ويقال : عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة   . 
وقوله : ( فيسخرون منهم سخر الله منهم   ) وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة من سخر بهم ، انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					