[ ص: 182 ] سورة عبس 
مكية في قول الجميع ، وهي إحدى وأربعون آية 
بسم الله الرحمن الرحيم 
عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى   
فيه ست مسائل : 
الأولى : قوله تعالى : عبس  أي كلح بوجهه ; يقال : عبس وبسر . وقد تقدم . وتولى أي أعرض بوجهه أن جاءه أن في موضع نصب لأنه مفعول له ، المعنى لأن جاءه الأعمى ، أي الذي لا يبصر بعينيه . فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش  كانوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل  عبد الله بن أم مكتوم ،  فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع عبد الله  عليه كلامه ، فأعرض عنه ، ففيه نزلت هذه الآية . 
قال مالك    : إن  هشام بن عروة  حدثه عن عروة ،  أنه قال : نزلت عبس وتولى  في  ابن أم مكتوم ;  جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول : يا محمد  استدنني ، وعند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : " يا فلان ، هل ترى بما أقول بأسا " ؟ فيقول : لا والدمى ما أرى بما تقول بأسا ; فأنزل الله : عبس وتولى    . وفي الترمذي  مسندا   [ ص: 183 ] قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ،  حدثني أبي ، قال هذا ما عرضنا على  هشام بن عروة  عن أبيه عن عائشة ،  قالت : نزلت عبس وتولى في  ابن أم مكتوم  الأعمى ، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ، يقول : يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : " أترى بما أقول بأسا " فيقول : لا ; ففي هذا نزلت ; قال : هذا حديث غريب . 
الثانية : الآية عتاب من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في إعراضه وتوليه عن  عبد الله بن أم مكتوم    . ويقال :  عمرو بن أم مكتوم ،  واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم ،  وعمرو هذا : هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم ،  وهو ابن خال خديجة    - رضي الله عنها - . وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين ، يقال كان الوليد بن المغيرة    . 
 ابن العربي    : قاله المالكية من علمائنا ، وهو يكنى أبا عبد شمس    . وقال قتادة    : هو أمية بن خلص  وعنه : أبي بن خلف    . وقال مجاهد    : كانوا ثلاثة : عتبة  وشيبة  ابنا ربيعة  وأبي بن خلف    . وقال عطاء  عتبة بن ربيعة    .  سفيان الثوري    : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمه العباس    .  الزمخشري    : كان عنده صناديد قريش    : عتبة  وشيبة  ابنا ربيعة ،  وأبو جهل بن هشام ،   والعباس بن عبد المطلب ،  وأمية بن خلف ،  والوليد بن المغيرة  يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم . 
قال  ابن العربي    : أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة  فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف  والعباس  وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، ذلك أن أمية بن خلف  والوليد  كانا بمكة   وابن أم مكتوم  كان بالمدينة ،  ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين ، أحدهما قبل الهجرة ، والآخر ببدر ،  ولم يقصد قط أمية  المدينة ،  ولا حضر عنده مفردا ، ولا مع أحد . 
الثالثة : أقبل  ابن أم مكتوم  والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشتغل بمن حضره من وجوه قريش  يدعوهم إلى الله تعالى ، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء  ابن أم مكتوم  وهو أعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ; فعبس وأعرض عنه ، فنزلت الآية   . قال الثوري    : فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا رأى  ابن أم مكتوم  يبسط له رداءه ويقول : " مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " . ويقول : " هل من حاجة " ؟ واستخلفه على المدينة  مرتين في غزوتين غزاهما . قال أنس    : فرأيته يوم القادسية  راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء   . 
الرابعة : قال علماؤنا : ما فعله  ابن أم مكتوم  كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن   [ ص: 184 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغول بغيره ، وأنه يرجو إسلامهم ، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة ; أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني ،  وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر ، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى  الآية على ما تقدم . وقيل : إنما قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تأليف الرجل ، ثقة بما كان في قلب  ابن أم مكتوم  من الإيمان ; كما قال : " إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه   " . 
الخامسة : قال ابن زيد    : إنما عبس النبي - صلى الله عليه وسلم -  لابن أم مكتوم  وأعرض عنه ; لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه  ابن أم مكتوم ،  وأبى إلا أن يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه . ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : عبس وتولى  بلفظ الإخبار عن الغائب ، تعظيما له ولم يقل : عبست وتوليت . 
ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال : وما يدريك  أي يعلمك لعله يعني  ابن أم مكتوم  يزكى بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، بأن يزداد طهارة في دينه ، وزوال ظلمة الجهل عنه . وقيل : الضمير في لعله للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر ، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن . 
وقرأ الحسن    ( آأن جاءه الأعمى ) بالمد على الاستفهام ف " أن " متعلقة بفعل محذوف دل عليه عبس وتولى ، التقدير : آأن جاءه أعرض عنه وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على وتولى ، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر ، وهي قراءة العامة . 
السادسة : نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي  وكذلك قوله في سورة الكهف : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا  وما كان مثله ، والله أعلم . 
أو يذكر يتعظ بما تقول فتنفعه الذكرى أي العظة . وقراءة العامة ( فتنفعه ) بضم العين ، عطفا على يزكى . وقرأ عاصم  وابن أبي إسحاق  وعيسى  فتنفعه نصبا . وهي قراءة السلمي   وزر بن حبيش ،  على جواب لعل ; لأنه غير موجب ; كقوله تعالى : لعلي أبلغ الأسباب  ثم قال : فأطلع . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					