الآية السادسة قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا    } . فيها ثلاث مسائل : 
المسألة الأولى : قوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك    } هذا مجاز ، عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله فضرب له مثلا الغل الذي يمنع من تصرف اليدين ، وقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلا آخر ، فقال : { مثل البخيل والمتصدق  كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، من لدن ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت ووفرت على جلده حتى يخفى بنانه ، ويعفو أثره . وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزمت كل حلقة مكانها . فهو يوسع ولا يتسع   } . 
المسألة الثانية : قوله : { ولا تبسطها كل البسط    } ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال ، فإن قبض الكف يحبس ما فيها ، وبسطها  [ ص: 192 ] يذهب ما فيها ، ومنه المثل المضروب في سورة الرعد : { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه    } . في أحد وجهي تأويله ، كأنه حمله على التوسط في المنع والدفع ، كما قال : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما    } فيؤول معنى الكلام إلى أوجه ثلاثة : 
الأول : لا يمتنع عن نفقته في الخير ، ولا ينفق في الشر . 
الثاني : لا يمنع حق الله ، ولا يتجاوز الواجب ; لئلا يأتي من يسأل ، فلا يجد عطاء . 
الثالث : لا تمسك كل مالك ، ولا تعط جميعه ، فتبقى ملوما في جهات المنع الثلاث ، محسورا ، أي منكشفا في جهة البسط والعطاء للكل أو لسائر وجوه العطاء المذمومة . 
المسألة الثالثة : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وكثيرا ما جاء في القرآن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم ، على عادة العرب  في ذلك ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد خيره الله في الغنى والفقر ، فاختار الفقر ، يجوع يوما ، ويشبع يوما ، ويشد على بطنه من الجوع حجرين ، وكان على ذلك صبارا ، وكان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير  وفدك  وخيبر  ، ثم يصرف ما بقي في الحاجات ، حتى يأتي أثناء الحول وليس عنده شيء ، فلم يدخل في هذا الخطاب بإجماع من الأمة ، لما هو عليه من الخلال والجلال ، وشرف المنزلة ، وقوة النفس على الوظائف ، وعظيم العزم على المقاصد ، فأما سائر الناس فالخطاب عليهم وارد ، والأمر والنهي كما تقدم إليهم متوجه ، إلا أفرادا خرجوا من ذلك بكمال صفاتهم ، وعظيم أنفسهم ، منهم {  أبو بكر الصديق  ، خرج عن جميع ماله للنبي صلى الله عليه وسلم فقبله منه لله سبحانه   } ; وأشار علي أبي لبابة  وكعب  بالثلث من جميع مالهم ; لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم ; وأعيان من الصحابة ، كانوا على هذا ، فأجراهم النبي صلى الله عليه وسلم وائتمروا بأمر الله ، واصطبروا على بلائه ، ولم تتعلق قلوبهم بدنيا ، ولا ارتبطت أبدانهم بمال منها ; وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق ، وعزوب أنفسهم عن التعلق بغضارة الدنيا .  [ ص: 193 ] 
وقد كان في أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة فما ادخر قط شيئا لغد ، ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد ، ولا ربط على الدنيا بيد ، وقد تحقق أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وهو بعباده خبير بصير . 
				
						
						
