فصل 
قال علماء السير: لما هلك أبرهة  ملك النصرانية في الحبشة  ابنه يكسوم  ، فذلت حمير  وقبائل اليمن  ، ووطئتهم الحبشة   ، ثم هلك يكسوم  ، وملك أخوه مسروق بن أبرهة  ، فلما طال البلاء على أهل اليمن   - وكان ملك الحبشة  باليمن  فيما بين أن دخلها أرياط  إلى أن قتلت الفرس  مسروقا  ، وأخرجوا الحبشة  من اليمن  اثنتين وسبعين سنة ، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط  ، ثم أبرهة  ، ثم يكسوم  ، ثم  مسروق   . 
خرج سيف بن ذي يزن الحميري ، وكان يزن يكنى: أبا مرة  ، حتى قدم على قيصر ملك الروم  ، فشكا إليه ما هم فيه  ، وطلب إليه أن يخرجهم عنه ، ويليهم هو ، ويبعث إليهم من شاء من الروم  ، ويكون له ملك اليمن  ، فلم يشكه ، ولم يجد عنده شيئا مما يريد . 
فخرج حتى قدم الحيرة  على النعمان بن المنذر   - وهو عامل كسرى  على الحيرة  وما يليها من أرض العراق   - فشكا إليه ما هم فيه من البلاء والذل ، فقال له النعمان   : إن لي على كسرى  وفادة [ في ] كل عام ، فأقم [ عندي ] حتى أخرج بك معي . فأقام عنده حتى خرج به إلى كسرى  ، فلما قدم النعمان  على كسرى  وفرغ من حاجته ، ذكر له سيف بن  [ ص: 130 ] ذي يزن  ، وما قدم له ، وسأله أن يأذن له عليه ، ففعل . 
وكان كسرى  إنما يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه ، وكان تاجه مثل القنفل العظيم ، مضروبا فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة ، معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاق مجلسه ذلك ، وكانت عنقه لا تحمل تاجه ، [ إنما ] يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ، ثم يدخل رأسه في تاجه ، فإذا استوى في مجلسه كشف الثياب عنه ، فلا يراه أحد إلا برك هيبة له . 
فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن  برك ، ثم قال: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة . فقال كسرى   : أي الأغربة ؟ الحبشة  أم السند  ؟ قال: الحبشة  ، فجئتك لتنصرني عليهم ، وتخرجهم عني ، وتكون لك بلادي ، فأنت أحب إلينا منهم . فقال: بعدت أرضك من أرضنا ، وهي أرض قليلة الخير ، إنما بها الشاء والبعير ، وذلك مما لا حاجة لنا به ، فلم أكن لأورط جيشا من فارس  بأرض العرب  ، لا حاجة لي بذلك . 
فأجيز بعشرة آلاف درهم ، وكساه كسوة حسنة ، فلما قبضها خرج فجعل ينثر الورق للناس ، فنهبتها الصبيان والعبيد والإماء ، فلم يلبث ذلك أن دخل على كسرى  ، فقيل له: العربي الذي أعطيته ما أعطيته نثره للناس ونهبته العبيد والصبيان والنساء . 
فقال: إن لهذا الرجل لشأنا ، ائتوني به ، فلما دخل قال: عمدت إلى حباء الملك الذي حباك به تنثره للناس! قال: وما أصنع بالذي أعطاني الملك! ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة - يرغبه فيها لما رأى من زهادته فيها - إنما جئت إلى الملك ليمنعني  [ ص: 131 ] من الظلم ، ويدفع عني الذل ، فقال له كسرى   : أقم عندي حتى أنظر في أمرك . فأقام عنده . 
وجمع كسرى  مرازبته وأهل الرأي ممن كان يستشيره فاستشارهم في أمره ، فقال قائل: أيها الملك ، [ إن ] في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل ، فلو أنك بعثتهم معه ، فإن هلكوا كان الذي أردت بهم ، وإن ظهروا على بلاده كان ملكا ازددته إلى ملكك . فقال: [ إن ] هذا الرأي! أحصوا لي كم في سجوني من الرجال ، فحسبوا فوجدوا في سجونه ثمانمائة رجل ، فقال: انظروا إلى أفضل رجل منهم حسبا وبيتا فاجعلوه عليهم . فنظروا فإذا رجل يقال له: وهرز   . ففعلوا ، وبعثه مع سيف بن ذي يزن  ، وأمره على أصحابه . 
ثم حملهم في ثماني سفن ، فغرقت سفينتان بما فيهما ، فخلصوا ستمائة ، فقال وهرز  لسيف   : ما عندك ؟ قال: ما شئت من رجل عربي ، وفرس عربي ، ثم أجعل رجلي مع رجلك ، حتى نموت جميعا أو نظهر جميعا . قال: أنصفت . 
فجمع إليه سيف  من استطاع من قومه ، وسمع بهم مسروق بن أبرهة  ، فجمع جنده من الحبشة  ، وسار إليهم حتى إذا تقاربت العسكران ، ونزل الناس بعضهم إلى بعض بعث وهرز  ابنا له - يقال له: نوزاذ   - على جريدة خيل ، فقال [ له ]:  [ ص: 132 ] ناوشهم القتال حتى ننظر كيف قتالهم . فخرج إليهم فناوشهم فقتلوه ، فزاد ذلك وهرز  حنقا عليهم . 
فقال: أروني ملكهم . فقالوا: ترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه ، بين عينيه ياقوتة حمراء . قال: نعم . قالوا: ذاك ملكهم . فوقفوا طويلا ثم قال: علام هو ؟ قالوا: قد تحول على فرس . فقال: اتركوه . فوقفوا طويلا ، ثم قال: علام هو ؟ قالوا: قد تحول على البغلة . فقال: ابنة الحمار! ذل وذل ملكه ، إني سأرميه ، فإن رأيتم أصحابه وقوفا لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم ، فإني قد أخطأت الرجل ، وإن رأيتم القوم قد استداروا ، ولاثوا به ، فقد أصبت الرجل ، فاحملوا عليهم . 
ثم أوتر قوسه وضربه فصك الياقوتة التي بين عينيه ، فتغلغلت النشابة في رأسه ، حتى خرجت من قفاه ، فتنكس عن دابته ، واستدارت الحبشة  ، فحملت عليهم الفرس  ، فانهزموا ، وقتلوا وهرب شريدهم في كل وجه ، فأقبل وهرز  يريد صنعاء  يدخلها ، حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبدا ، اهدموا الباب . فهدم باب صنعاء  ، ثم دخلها ناصبا رايته بين يديه . 
فلما ملك اليمن  ونفى عنها الحبشة  كتب إلى كسرى   : إني قد ضبطت لك اليمن  ، وأخرجت من كان بها من الحبشة  ، وبعث إليه الأموال . فكتب إليه كسرى  أن يملك سيف بن ذي يزن  على اليمن  وأرضها ، وفرض كسرى  على سيف بن ذي يزن  جزية وخراجا يؤديه في كل عام ، وكتب إلى وهرز  أن ينصرف إليه ففعل ، وكان ذو يزن أبو سيف  من ملوك اليمن   . 
وقيل: بل الذي قدم على كسرى  ذي يزن  ، فمات على بابه ، فقدم ابنه سيف  عليه ، فقال: أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصر فمات ببابك فرق له وأعانه ، وجرى له ما ذكرنا .  [ ص: 133 ] 
قال ابن هشام بن محمد   : لما صعدت السفائن سار إليهم  مسروق  في مائة ألف من الحبشة  وحمير  والأعراب  ، ولحق بابن ذي يزن  بشر كثير ، ونزل وهرز  على سيف البحر وراء ظهره ، ولما نظر  مسروق  إلى قلتهم طمع فيهم ، وأرسل إلى وهرز  وقال: ما جاء بك ، وليس معك إلا ما أرى ، ومعي من ترى! لقد غررت بنفسك وبأصحابك ، فإن أحببت أذنت لك ، فرجعت ، وإن أحببت ناجزتك ، أو أجلتك حتى تنظر في أمرك . فقال: بل تضرب بيني وبينك أجلا . ففعل . 
فلما مضى من الأجل عشرة أيام خرج ابن وهرز  حتى دنا من عسكر القوم فقتلوه ، فلما انقضى الأجل غير يوم أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار ، وما كان معهم من فضل كسوة فأحرق ، ولم يدع إلا ما كان على أجسادهم ، ثم دعا بكل زاد كان معهم فقال: كلوا . فلما فرغوا أمر بفضله فألقي في البحر ، ثم قال: أما ما أحرقت من سفنكم ، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم ، وأما ما أحرقت من ثيابكم ، فإنه كان يغيظني إن ظفرت بكم الجيش ، أن يصير ذلك إليهم ، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر ، فإني كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يوما واحدا ، فإن كنتم تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك ، وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري ، فإني لم أكن لأمكنهم من نفسي . فقالوا: بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا ، أو نظفر . 
فلما أصبح عبأ أصحابه ، وجعل يقول: إما ظفرتم ، وإما متم كراما . ثم رمى ملك القوم فسقط ، وهزموا ، وغنم من عسكرهم ما لا يحصى ، وغلب على صنعاء  وبلاد اليمن   . 
وقال  ابن إسحاق   : لما انصرف وهرز  إلى كسرى  ، وخلف سيفا  على اليمن  عدا  [ ص: 134 ] على الحبشة  فجعل يقتلهم إلا بقايا ذليلة ، فاتخذهم خولا ، وجعل منهم قوما يمشون بين يديه بالحراب ، فلما كان يوما في وسطهم وجئوه بالحراب فقتلوه ، ووثب رجل من الحبشة  فأفسد في اليمن  ، فبلغ الأمر كسرى  ، فبعث إليهم وهرز  في أربعة آلاف من الفرس  ، وأمره ألا يترك باليمن  أسود ولا ممن شرك فيه السودان   [ إلا قتله ] . ففعل ، فأقام فيها يجبيها إلى كسرى  حتى هلك . 
ولما احتضر وهرز  دعا بقوسه ونشابته ، وقال: أجلسوني . فأجلسوه ، فرمى وقال: هناك . فوقعت نشابته وراء الدير ، فلما هلك بعث كسرى  إلى اليمن  أسوارا يقال له: زين  ، وكان جبارا مسرفا فعزله ، واستعمل المروزان بن وهرز  ، فلما هلك أمر بعده ابنه البينجان بن المرزبان  ، فلما هلك أمر بعده خر خسره   . 
ثم إن كسرى  غضب عليه ، فحلف ليأتينه به أهل اليمن  يحملونه على أعناقهم ، ففعلوا ، فلما قدموا على كسرى  تلقاه رجل من عظماء فارس  ، فألقى عليه سيفا لأبي كسرى  ، فأجاره كسرى  بذلك من القتل ونزعه ، وبعث باذان  إلى اليمن  ، فلم يزل عليها حتى بعث الله وعز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					