القسم الثالث الذي اختلف فيه هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا فهذا هو التعظيم بالقسم فهل يجوز أن يقسم بغير الله تعالى فلا يكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه أو لا يجوز فيكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه وهذا القسم هو الذي سيق الفرق لأجله لأنه المتعلق بالقواعد الفقهية وقد اختلف العلماء فيه فقال الشيخ الفقيه أبو الوليد بن رشد في المقدمات هو مباح كالحلف بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وبصفاته العلا ومحرم كالحلف باللات والعزى وما يعبد من دون الله تعالى لأن الحلف تعظيم وتعظيم هذه الأشياء قد يكون كفرا وأقله التحريم ومكروه وهو الحلف بما عدا ذلك .
وقاله الشافعي رضي الله تعالى عنه لما في مسلم قال صلى الله عليه وسلم { ألا إن الله تعالى نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } ومن المكروه الحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالكعبة وقال أبو الحسن اللخمي بالمخلوقات كالنبي صلى الله عليه وسلم ممنوع فمن فعل ذلك استغفر الله تعالى واختلف في جواز الحلف بصفات الله تعالى كالقدرة والإرادة والعلم ونحوها من الصفات السبعة فالمشهور الجواز ولزوم الكفارة في ذلك إذا حنث وقاله أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين وروي عن مالك رحمه الله الكراهة في لعمر الله وأمانة الله وإن حلف بالقرآن والمصحف ليس بيمين ولا كفارة فيه .
وقال الشيخ جلال الدين في الجواهر [ ص: 28 ] لا يجوز الحلف بصفات الله الفعلية كالرزق والخلق ولا يجب فيه كفارة ويدل على جواز الحلف بصفات الله تعالى القديمة ما في البخاري أن أيوب عليه الصلاة والسلام قال بلى وعزتك لا غنى لي عن بركتك فإن قلت فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي السائل عما يجب عليه { أفلح وأبيه إن صدق } فقد حلف عليه الصلاة والسلام بأبي الأعرابي وهو مخلوق قلت قد اختلف في صحة هذه اللفظة في الحديث فإنها ليست في الموطإ بل أفلح إن صدق فلنا منعها على الخلاف في زيادة العدل في روايته أو نجيب بأنه منسوخ بالحديث المتقدم قاله صاحب الاستذكار ابن عبد البر أو نقول هذا خرج مخرج توطئة الكلام لا الحلف نحو قولهم قاتله الله تعالى ما أشجعه ولا يريدون الدعاء عليه بل توطئة الكلام ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها { تربت يداك ومن أين يكون الشبه } ولم يرد الدعاء عليها بالفقر الذي يكنى بالإلصاق بالتراب تقول العرب التصقت يده بالأرض وبالتراب إذا افتقر بل أراد عليه الصلاة والسلام توطئة الكلام .
فإذا تقرر القسم المختلف في توحيد الله تعالى به في الحلف فهل يجوز أن يشرك معه غيره بأن يقسم عليه ببعض مخلوقاته بأن يقول بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك أو بحرمة الأنبياء والصالحين إلا غفرت لنا أو بحق الملائكة المقربين إلا سترت علينا أو بحرمة البيت الحرام والطائفين والقائمين والركع السجود إلا هديتنا هديهم وسلكت بنا سبيلهم فقد ورد ذلك في بعض الأحاديث أو يمتنع لأنه قسم وتعظيم القسم بغير الله تعالى وقد توقف في هذا بعض العلماء ورجح عنده التسوية بين الحلف بغير الله وبين الحلف على الله تعالى بغيره وقال الكل قسم وتعظيم فإن قلت قد حلف الله تعالى بالشمس وضحاها والتين والزيتون والسماء والطارق وغير ذلك من المخلوقات فكيف يختلف في الجواز مع وروده في القرآن متكررا .
قلت : اختلف العلماء في الواقع في القرآن من ذلك فمنهم من قال : فيه كله مضاف محذوف تقديره أقسم برب الشمس أقسم برب التين والزيتون وكذا البواقي فما وقع الحلف إلا بالله تعالى دون خلقه ومنهم من قال إنما أقسم الله تعالى بها تنبيها لعباده على عظمتها عنده فيعظمونها ولا يلزم من الحجر على الخلق في شيء أن يثبت ذلك الحجر في حقه تعالى فإنه الملك المالك على الإطلاق يأمر بما يشاء ويحكم بما يريد من غير اعتراض ولا نكير فيحرم على عباده ما يشاء ولا يحرم شيء من ذلك عليه فإن قلت إذا قلنا بالحلف بصفات الله تعالى المعنوية كالعلم والكلام ونحوهما فهل القرآن من هذا القبيل وكذلك التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة ؟ أم ليس كذلك قلت قال أبو حنيفة هذه الأشياء ليست منها وإن [ ص: 29 ] كان كلام الله تعالى النفسي منها لاشتهار لفظ القرآن في الأصوات المسموعة عرفا وأنه لا يفهم من إطلاق لفظ القرآن إلا هذه الأصوات والحروف والأصوات والحروف مخلوقة فعند الإطلاق ينصرف اللفظ إليها والحلف بالمخلوق منهي عنه .
والمنهي عنه لا يوجب كفارة فلا يجب بالحلف بالقرآن كفارة وكذلك بقية الكتب وقال مالك يجب عليه الكفارة إذا حلف بالقرآن لانصرافه عنده للكلام القديم النفسي والظاهر ما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه فإنا لا نفهم من قبول القائل : القرآن وهو يحفظ القرآن ، وكتب القرآن إلا هذه الأصوات والرقوم المكتوبة بين الدفتين وهو الذي يفهم من نهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو فإن المسافرة متعذرة بالقديم وروي عن مالك مثل ما قاله أبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن الألفاظ التي نص العلماء على توحيد الله تعالى بها لفظ الله والرحمن فلا يجوز إطلاقهما على غيره ولا يسمى بهما غيره ومن ذلك لفظ تبارك فتقول تبارك الله أحسن الخالقين ولا تقول تبارك زيد وكذلك كل لفظ اشتهر استعماله في حق الله تعالى خاصة لا يجوز إطلاقه على غيره وهذه الأمور من القرآن وتبارك ونحوها مما يقبل الحكم فيها التغير إذا تغير العرف فإذا جاء عرف بكون أهله لا يريدون بلفظ القرآن إلا الكلام القديم تعين لزوم الكفارة به وجوز الحلف به فإن الأحكام المرتبة على العوائد تتبع العوائد وتتغير عند تغيرها فتأمل ذلك فهذا تلخيص الفرق بين قاعدة ما يجب توحيد الله تعالى به وتوحده وبين ما لا يجب [ ص: 27 - 29 ]


