[ نسخ مفهوم الموافقة والنسخ به    ] 
وأما مفهوم الموافقة ، فهل يجوز نسخه والنسخ به ؟ أما كونه ناسخا ، فجزم القاضي  بجوازه ، في " التقريب " وقال : لا فرق في جواز النسخ بما اقتضاه نص الكتاب ، وظاهره ، وجوازه بما اقتضاه فحواه ، ولحنه ، ومفهومه ، وما أوجبه العموم ، ودليل الخطاب عند مثبتها ، لأنه كالنص أو . 
 [ ص: 301 ] أقوى منه . انتهى . وكذا جزم ابن السمعاني  ، قال : لأنه مثل النطق أو أقوى منه . قال : لكن  الشافعي  جعله قياسا ، فعلى قوله لا يجوز نسخ النص به . ونقل الآمدي  ، والإمام فخر الدين  الاتفاق على أنه ينسخ به ما ينسخ بمنطوقه ، وهو عجيب . فإن في المسألة وجهين لأصحابنا ، وغيرهم ، حكاهما الماوردي  في " الحاوي " ، والشيخ  في " اللمع " ، وسليم  ، وصححا المنع . قال سليم    : وهو المذهب ، لأنه قياس عند  الشافعي  ، فلا يقع النسخ به . ونقله الماوردي  عن الأكثرين . قال : لأن القياس فرع النص الذي هو أقوى ، فلا يجوز أن يكون ناسخا له . 
قال : والثاني ، وهو اختيار  ابن أبي هريرة  وجماعة : الجواز ، لأنه لما جاز أن يرد التعبد في فرعه بخلاف أصله ، صار الفرع كالنص ، فجاز به النسخ ، وإن كان أصله نصا في القرآن جاز أن ينسخ به القرآن ، وإن كان أصله نصا في السنة جاز أن ينسخ به السنة دون القرآن . قال : ومن هاهنا اختلف أصحابنا في قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا    } مع قوله { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين    } الآية أن نسخ مصابرة عشرين مئتين بمصابرة عشرين أربعين علم  [ ص: 302 ] بالقياس أو باللفظ ؟ فمنهم من قال : علم بالقياس ، لأن الله لم ينص على حكم العشرين ، وإنما قسناه على حكم المئتين . ومنهم من قال علم باللفظ . ا هـ . ومنشأ الخلاف في أنه قياس جلي أو لا : أن دلالته لفظية أو عقلية التزامية ؟ فإن قلنا : لفظية جاز نسخها ، والنسخ بها كالمنطوق ، وإن كانت عقلية ، كانت قياسا جليا ، والقياس لا ينسخ ، ولا ينسخ به . وأما كونه منسوخا ، فتارة يتوجه النسخ إليه مع بقاء حكم اللفظ ، وتارة يتوجه إلى اللفظ ، فإن توجه إلى اللفظ فلا شك في جوازه ، ويكون نسخا للفحوى على الخلاف الآتي ، وإن توجه إلى الفحوى فقط ، وحكم اللفظ باق ، فاختلف فيه الأصوليون على قولين ، حكاهما ابن السمعاني  وغيره : أحدهما : الجواز ، ونقله عن أكثر المتكلمين  ، كالنصين ، يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر . ونقله سليم  عن الأشعرية  وغيرهم من المتكلمين  ، قال : بناء على أصلهم أن ذلك مستفاد من اللفظ ، فكانا بمنزلة لفظين ، فجاز نسخ أحدهما مع بقاء حكم الآخر . ا هـ . وجزم به سليم  ، قال : لأنهما في الحكم بمنزلة ما تناوله العموم من المشتبهات ، ونسخ بعض ذلك مع بقاء بعض سائغ . قال : ويفارق القياس حيث يمتنع نسخه مع بقاء أصله ، لأن صحة الأصل صحة الفرع ، فما دام الأصل باقيا وجبت صحته . 
والثاني : المنع ، وصححه سليم  ، وجزم به الماوردي  ، والروياني  ، ونقله ابن السمعاني  عن أكثر الفقهاء ، لأن ثبوت نطقه موجب لفحواه ومفهومه ، فلم يجز نسخ الفحوى مع بقاء موجبه كما لا ينسخ القياس مع بقاء أصله . وقال  أبو الحسين  في " المعتمد " : فأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل . 
 [ ص: 303 ] فجوزه القاضي عبد الجبار  في " العمد " . وقال في شرحه : يجوز ذلك إلا أن يكون نقضا للغرض ، ومنع منه في الدرس ، وهو الصحيح لأنه لا يرتفع مع بقاء الأصل إلا وقد انتقض الغرض ، لأنه إذا حرم التأفيف على سبيل الإعظام للأبوين كانت إباحة مضرتهما نقضا للغرض . وفصل بعض المتأخرين بين أن تكون علة المنطوق لا تحتمل التغير ، كإكرام الوالد بالنهي عن تأفيفه ، فيمتنع نسخ الفحوى لتناقض المقصود . وإن احتملت النقض جاز ، لاحتمال الانتقال من علة إلى علة ، كما لو قال لغلامه : لا تعط زيدا درهما ، يقصد بذلك حرمانه لغضبه  ، ففحواه أن لا يعطيه أكثر منه . فإذا نسخ ذلك بأن قال : أعطه أكثر من درهم ، ولا تعطه درهما جاز ، لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى علة مواساته . وإذا فرعنا على الجواز ، ففي استتباع نسخ أحدهما نسخ الآخر ثلاثة مذاهب : أحدها : أن نسخ كل منهما يستلزم نسخ الآخر ، واختاره  البيضاوي  ، لتلازمهما . 
والثاني : لا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر . 
والثالث : أن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى ، لأنها تابعة ، ولا يتصور بقاء التابع بدون متبوعه ، ونسخ المفهوم لا يتضمن نسخ الأصل ، وجعله ابن برهان  في " الأوسط " المذهب ، ونقل عن الحنفية أن نسخ المنصوص لا يتضمن نسخ المفهوم ، لئلا يؤدي إلى النسخ بالقياس . قال : وهذا باطل ، لأن المنصوص عليه إذا نسخ كان من ضرورته انتساخ المفهوم ، لأنه من توابعه ، ولا يتصور بقاء التابع مع فقد الأصل . ووجه غيره مذهب الحنفية بأنه أولى بالثبوت من النص ، فلا يكون رفع الأصل مستلزما لرفعه .  [ ص: 304 ] قال الصفي الهندي    : وهو متجه . ولهذا لو صرح بنفي تحريم التأفيف  ، وتحريم الضرب لم يكن تناقضا ، وهو على قول من يقول : نسخ الوجوب لا يستلزم الجواز ألزم . وبنوا عليه أن نسخ قوله : { من قتل عبده قتلناه   } لا يقتضي نسخ مفهومه ، وهو أنه يقتل بقتل عبد غيره بطريق أولى . واختار الآمدي  أنا إن قلنا : الفحوى ثبت بدلالة اللفظ ، فهي على تحريم التأفيف صريحة ، وعلى الضرب التزامية فهما دلالتان مختلفتان ، فلا يلزم من رفع إحداهما رفع الأخرى ، وإن قلنا : ثبت بالقياس وجب أن يكون رفع حكم الأصل موجبا لرفع حكم الفرع ، لاستحالة بقاء الفرع دون أصله ، وإن لم يسم ذلك نسخا ، وإن رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل ، لأنه لا يلزم من رفع التابع رفع المتبوع . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					