[ مذاهب العلماء في حمل المطلق على المقيد ] [ إذا اختلفا في السبب دون الحكم ]  
إذا علمت ذلك فاختلفوا في هذه المسألة على مذاهب : أحدها : أن المطلق يحمل على المقيد بموجب اللفظ ومقتضى اللغة من غير دليل ، ما لم يقم دليل على حمله على الإطلاق ، فإن تقيد أحدهما يوجب تقييد الآخر لفظا ، كقوله تعالى : { والذاكرين الله كثيرا والذاكرات    } وكما في العدالة والشهود في قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم    } يحمل على قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم    } وحمل إطلاق العتق في كفارة الظهار واليمين على العتق المقيد بالإيمان في كفارة القتل . قال الماوردي  والروياني  في باب القضاء : إنه ظاهر مذهب  الشافعي    .  [ ص: 15 ] وقال الماوردي  في باب الظهار : إن عليه جمهور أصحابنا . وقال سليم    : إنه ظاهر كلام  الشافعي    . وحكاه  القاضي عبد الوهاب  عن جمهور أصحابهم . 
ونقله إمام الحرمين  عن بعض أصحابنا . قال : وأقرب طريق هؤلاء أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد ، وحق الخطاب الواحد أن يترتب فيه المطلق على المقيد قال : وهذا من فنون الهذيان ، فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة ، لبعضها حكم التعلق والاختصاص ، ولبعضها حكم الاستدلال والانقطاع ، فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله النفي والإثبات ، والأمر والزجر ، والأحكام المتغايرة فقد ادعى أمرا عظيما ، ولا تغني في مثل ذلك الإشارة إلى اتحاد الكلام الأزلي ، ومضطرب المتكلمين في الألفاظ وقضايا الصيغ ، وهي مختلفة لا مراء في اختلافها ، فسقط هذا الظن . 
والمذهب الثاني : أنه لا يحمل عليه بنفس اللفظ ، بل لا بد من دليل من قياس أو غيره ، كما يجوز تخصيص العموم بالقياس وغيره  ، وإن حصل قياس صحيح أو غيره من الأدلة يقتضي تقييده به قيد ، وإلا أقر المطلق على إطلاقه ، والمقيد على تقييده . قال الآمدي    : هذا هو الأظهر من مذهب  الشافعي  ، وصححه هو والإمام فخر الدين  وأتباعهما . وقد علمت أن أصحاب  الشافعي  إنما نقلوا عنه الأول ، وهم أعرف من الآمدي  بذلك . وفي مناقب  الشافعي  لابن أبي حاتم الرازي  عن يونس بن عبد الأعلى   [ ص: 16 ] قال : سمعت  الشافعي  يعيب على من يقول : لا يقاس المطلق من الكتاب على المنصوص . وقال : يلزم من قال هذا أن يجيز شهادة العبد والسفهاء ، لأن الله عز وجل قال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم    } وقال في موضع آخر : { وأشهدوا إذا تبايعتم    } مطلقا ولكن المطلق يقاس على المنصوص في مثل هذا ، فلا يجوز إلا العدل . نعم ، هذا القول عليه جماعة كثيرون من أصحابنا ، منهم  القفال الشاشي  كما رأيته في كتابه ، ونقلوه عن  ابن فورك  ، وصححه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني  ،  والقاضي أبو الطيب  ،  والشيخ أبو إسحاق  ، وإمام الحرمين  ، وابن القشيري  ، والغزالي  ، وابن برهان  ، وابن السمعاني    . وقال ابن دقيق العيد  في " شرح العمدة " : إنه الأقرب . واختاره  القاضي أبو بكر  ، ونسبه إلى المحققين . قال : لو جاز تقييد المطلق لتقييد المقيد لجاز إطلاق المقيد لإطلاق المطلق ، وهو لا يجوز إجماعا . 
ونقله الماوردي  عن  أبي علي بن أبي هريرة  ، ثم قال : وهو قلة معرفة بلسانهم ، لأنهم تارة يكررون الكلمة للتأكيد ، وتارة يحذفونها للإيجاز ، وتارة يسقطون بعضها للترخيم . ونقله  القاضي عبد الوهاب  عن الجمهور من المالكية وغيرهم ، ونقله  الأستاذ أبو منصور  عن ابن سريج    . وحكاه الماوردي  والروياني  في باب القضاء عن بعض أصحابنا ، فقالا : وذهب بعض أصحابنا إلى أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل . فإن قام الدليل على تقييده قيد ، وإن لم يقم على واحد منهما دليل صار كالذي لم يرد فيه نص ، فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة . قالا : وهذا قول من ذهب إلى وقف العموم حتى يقوم دليل على تخصيص أو عموم . وهذا أفسد المذاهب ، لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها ولا يعدل بالاحتمال إلى غيرها ليكون النص ثابتا بما يؤدي إليه الاجتهاد من نفي الاحتمال عنه ، وتعين المراد به .  [ ص: 17 ] قال الأصفهاني    : وحيث قلنا : يقيد قياسا أردنا به سالما عن الفروق ، وبه يندفع قولهم : إن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام . وقال ابن برهان    : كل دليل يجوز تخصيص العموم به ، يجوز تقييد المطلق به ، وما لا فلا ، لأن المطلق عام من حيث المعنى . فيجوز التقييد بفعله عليه السلام ، خلافا للقاضي  ، وتقريره خلافا لبعضهم ، وبمفهوم الخطاب . 
وقال  ابن فورك  وإلكيا الطبري   والقاضي عبد الوهاب    : القائلون بأنه يحمل عليه من جهة القياس اختلفوا ، هل القياس مخصص للمطلق أو زائد فيه ، فمنهم من قال : إنه يقتضي تخصيص المطلق لا الزيادة فيه . قال  القاضي عبد الوهاب    : وهو الصحيح . ومنهم من قال : يقتضي الزيادة فيه ، وجوز الزيادة بالقياس ، ولم يقدره نسخا . 
وقال صاحب الواضح : اختلف أبو عبد الله البصري  وعبد الجبار  في أن تقييد الرقبة المطلقة بالإيمان ، هل يقتضي زيادة أو تخصيصا ؟ فقال البصري    : هو زيادة ، لأن إطلاق الرقبة يقتضي إجزاء كل ما تقع عليه الرقبة ، فإذا اعتبر في إجزائها الإيمان كان ذلك زيادة لا محالة . وقال قاضي القضاة : هو تخصيص ، لأن إطلاق الرقبة يقتضي إجزاء المؤمنة ، والكافرة ، والتقييد بالإيمان يخرج الكافرة ، فكان تخصيصا لا محالة . قال : وفائدة هذا الخلاف أن من قال : زيادة ، يمنع الحمل بالقياس ، لأن هذه الزيادة نسخ ، والنسخ بالقياس لا يجوز ، ومن قال : تخصيص جواز الحمل بالقياس وخبر الواحد . ليس هذا بخلاف في الحقيقة ، فالقاضي أراد أن التقيد بالصفة نقصان في المعنى ، وأبو عبد الله  أراد زيادة في اللفظ . ا هـ . 
وقال الغزالي  في " المنخول " : القائلون بالقياس اختلفوا ، فقيل : لا يجوز الاستنباط من محل التقييد ، فليكن من محل آخر ، وهو عدم إجزاء المرتد بالإجماع . قال : وهذا باطل ، فإن المستنبط من محل التقييد إن كان محلا صالحا قبل ، وإلا فهو باطل ، لعدم الإحالة .  [ ص: 18 ] والمذهب الثالث : قال الماوردي    : وهو أولى المذاهب ، أنه يعتبر أغلظ حكمي المطلق والمقيد ، فإن كان حكم المطلق أغلظ حمل على إطلاقه ، ولم يقيد إلا بدليل ، وإن كان حكم المقيد أغلظ ، حمل المطلق على المقيد ، ولم يحمل على إطلاقه إلا بدليل ، لأن التغليظ إلزام ، وما تضمنه الإلزام لم يسقط التزامه بالاحتمال . 
المذهب الرابع : التفصيل بين أن يكون صفة ، فيحمل كالإيمان في الرقبة ، أو ذاتا فلا يحمل ، كالتقييد بالمرافق في الوضوء دون التيمم وهو حاصل كلام الأبهري  وسيأتي ما فيه . 
المذهب الخامس : أنه لا يحمل عليه أصلا ، لا من جهة القياس ، ولا من جهة اللفظ ، وهو مذهب الحنفية ، وحكاه  القاضي عبد الوهاب  في الملخص عن أكثر المالكية بعد أن قال : الأصح عندي الثاني . قال ابن السمعاني  في " الاصطلام " : وعلله الحنفية بأن تقييد الخطاب بشيء في موضع ، لا يوجب تقييد مثله في موضع آخر ، كما أن تخصيص العموم في موضع لا يوجب تقييد العموم في موضع آخر ، ولو وجب حمل المطلق على المقيد بظاهر الخطاب لم يكن ذلك بأولى من حمل المقيد على المطلق بظاهر الورود ، وهذا لأن التقييد له حكم ، والإطلاق له حكم ، وحمل أحدهما على صاحبه مثل حمل صاحبه عليه . لأن كل واحد منهما ترك الخطاب من تقييد أو إطلاق . ا هـ . 
قال في " المعتمد " : واختلفوا في سبب المنع ، فقيل : لأن تقييده بالإيمان زيادة على النص ، والزيادة على النص نسخ ، والنسخ لا يجوز تقييده بالقياس . وقيل : لأن تقييده بالإيمان زيادة على حكم قصد استيفاؤه . وقيل : تخصيصه بالإيمان هو تخصيصه بحكم قد قصد استيفاؤه .  [ ص: 19 ] وقال في " المنخول " : اختلفوا في وجه النسخ ، فقيل : لأن فيه شرط الإيمان والنص لا يقتضيه . وقال المحققون : اقتضى النهي إجزاء ما يسمى رقبة ، فشرط الإيمان بغير مقتضى النص . قال : وهذا يقوى لهم في مسألة النية في الوضوء ، فإن الله تعالى تولى بيان أفعال الوضوء وأركانه ، فاقتضى ذلك وقوع الإجزاء بتحصيل ما تعرض له ، وشرط النية زيادة عليه . وقال  الشافعي    : الزيادة على النص تخصيص ، وإنما قال ذلك ، لأنه يسمي الظاهر نصا . وقال  القاضي أبو بكر    : وقد بينا أن التقييد بالقياس وغيره نقصان لا زيادة . فإن الزيادة على النص فيها ما هو نسخ ، وما ليس بنسخ . 
[ أسباب الاختلاف في المسألة السابقة ] واعلم أن الخلاف في أصل هذه المسألة يلتفت إلى أمور : أحدها : أن المطلق هل هو ظاهر في الاستغراق أو نص فيه ؟ فإن قلنا : ظاهر ، جاز حمل المطلق على المقيد بالقياس على الخلاف السابق في التخصيص به ، وإن قلنا : نص ، فلا يسوغ ، لأنه يكون نسخا ، والنسخ بالقياس  لا يجوز . قال ابن رحال    : ورأيت لبعض المتأخرين . مذهبا ثالثا ، وهو أن المطلق ليس بنص في الإطلاق ، ولا ظاهر فيه ، بل هو متناول للذات غير متعرض للقيد بنفي ولا إثبات ، وعلى هذا فلا يكون تقييد المطلق من باب التأويل ، بل يكون آتيا بما لم يشعر به اللفظ الأول ، وهو بمثابة إيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة . الثاني : أن الزيادة على النص نسخ عندهم ، تخصيص عند  الشافعي  ،  [ ص: 20 ] كما نقله عنه في " المنخول " هنا ، والنسخ لا يجوز بالقياس ، ويجوز التخصيص به . الثالث : القول بالمفهوم ، فهو يدعي أنه ليس بحجة ، وعندنا أنه حجة ، فلذا حملناه عليه . وقال : إمام الحرمين    : قد تناقض الحنفية في تقييدهم رقبة الظهار باشتراط نطقها ، فلا يجزئ عندهم إعتاق الأخرس ، وفي تقييدهم القربى بالفقراء في قوله تعالى : { ولذي القربى    } ثم قال : والحق أن المطلق كالعام ، فيتقيد كالتخصيص ، والتخصيص تارة يكون بقصر اللفظ على بعض غير مميز بصفة كحمل الفقراء على ثلاثة ، وتارة على مميز بصفة ، كحمل المشركين على الحربيين . 
وقال في المقترح : مطلق النظر في هذه المسألة يبنى على أن الاجتزاء بالمطلق يؤخذ من مجرد اللفظ ، أو من عدم دليل يدل على اعتبار زائد ، فإن قلنا : بالثاني : فالمطلق لا يشعر بالمقيد ، فلا يحمل عليه ، لأن حمله عليه من باب التأويل بأن يكون اللفظ يحتمل معنيين ، فيحمل على أحدهما بالدليل ، وحينئذ فاللفظ لا إشعار فيه بالمطلق ، فضلا عن المقيد ، فلا يحمل ، وإن قلنا : مأخوذ من إشعار اللفظ ، فهل هو ظاهر في الاستغراق أو نص فيه ؟ فإن قلنا : ظاهر جاز حمل المطلق على المقيد بقياس على الخلاف ، وإن قلنا نص فلا يسوغ الحمل بالقياس ، لأنه يكون نسخا ، والنسخ بالقياس لا يجوز به . 
تنبيهان 
الأول : قال الإبياري    : بقي قسم رابع ، وهو أن يتحد الموجب ، ويختلف صنف الموجب ، كما إذا قيد الرقبة في كفارة الظهار بالإسلام ، ثم  [ ص: 21 ] أطلق في جانب الإطعام ذكر المساكين ، فهل يتقيد به المسكين بأن يكون مسلما كالرقبة المعتقة ؟ وقد أغفل الأصوليون الكلام على هذه الصورة ، والذي أقوله في ذلك : أنه يصح ، ويمكن أن يسلك به مسلك القياس كما سلكناه في مسألة تقييد الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل على ذلك الطريق . . 
				
						
						
