[ الخطاب الوارد على سبب لواقعة وقعت    ] : 
هذا كله في الخطاب الخارج جوابا لسؤال ، فأما إذا لم يكن كذلك ، ولكن ورد على سبب لواقعة وقعت ، فقال الآمدي  وغيره : إنه يجري فيه الخلاف ، كقوله : { أيما إهاب دبغ فقد طهر   } . والتحقيق أن يقال : إما أن يرد في اللفظ قرينة تشعر بالتعميم ، كقوله : { والسارق والسارقة    } والسبب رجل سرق رداء  صفوان  ، فالإتيان بالسارقة معه قرينة تدل على عدم الاقتصار على المعهود ، وكذلك عن الإفراد إلى الجمع ، كما في قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات  [ ص: 287 ] إلى أهلها    } فإنها نزلت في  عثمان بن طلحة  أخذ مفتاح الكعبة  ، وتغيب به ، وأبى أن يدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : إن  عليا  أخذه منه ، وأبى أن يدفعه إليه ، فنزلت ، فأعطاه النبي إياه . 
وقال : { خذوها يا بني طلحة  خالدة مخلدة فيكم أبدا ، لا ينزعها منكم إلا ظالم   } فقوله : " الأمانات " قرينة مشعرة بالتعميم . وإن لم يكن ثم قرينة فلا يخلو إما أن يكون معرفا بالألف واللام أو لا ، فإن كان فقضية كلامهم الحمل على المعهود ، إلا أن يفهم من نفس الشارع قصد تأسيس قاعدة ، فيكون دليلا على العموم ، وإن كان العموم لفظا آخر غير الألف واللام ، فيحسن أن يكون هو محل الخلاف فتجري فيه الأقوال السابقة . ويزيد هنا قول آخر ، وهو التفصيل بين أن يكون الشارع ذكر السبب في كلامه فيقتصر عليه ، ولا يشاركه غيره ، إلا إذا وجد فيه ذلك المعنى ، أو يلحق ببيان : ( حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ) ، كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي مع قوله : { إنما نهيتكم من أجل الدافة   } ; وبين أن يكون السبب من غيره ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا السبب ، كقوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم    } فإنه على سبب الاختيان ، ثم يدخل فيه من اختان ومن لم يختن ، حكاه القاضي  في " التقريب "  والأستاذ أبو منصور  ،  وابن فورك  ، ونسبه أبو الحسين بن القطان   لأبي علي بن أبي هريرة  من أصحابنا ، قال : ويلزمه أن يقول : إن سقوط قيام الليل مخصوص بالمرض ، لأن الله تعالى قال عند  [ ص: 288 ] تخفيفه : { علم أن سيكون منكم مرضى    } قال  أبو الحسين    : وذكر كثير من الفقهاء أن الأسباب على ضربين : 
أحدهما : أسباب تقتضي لأجلها الحكم في الابتداء ، فيدخل المتعقب والابتداء . 
والثاني : لأجلها كان الحكم ، وما يرتفع السبب إلا يرتفع الحكم ، فيحتاج أن يتأمل الخطاب . فإن كان سبب الرخصة عاما عممناه ، ولم يراع السبب ، وإن كانت الرخصة منوطة بالسبب علقناه به ، ولا يجوز أن يتعدى السبب إلى غيره ، وعلى هذا تحمل الأسباب كلها . تنبيهات 
الأول : أن محل الخلاف أن لا تظهر قرينة توجب قصره على السبب من العادة ونحوها ، فإن ظهرت وجب قصره بالاتفاق . قاله القاضي  في التقريب ،  وأبو الحسين  في المعتمد ، ونقله عن أبي عبد الله البصري  ، كقوله في جواب تغد عندي : والله لا تغديت ، فالعادة تقتضي قصر الغداء عنده ، وإن كان مستقلا بنفسه ، يعني : فلا يحنث إذا تغدى عند غيره . وكما لو قيل له : كلم زيدا ، أو كل هذا الطعام . فقال : والله لا أكلت ، ولا كلمت ، فإنه يعلم أن قصده تخصيص اليمين بهذه المواضع . 
قال القاضي    : وعند هذه القرينة لا خلاف في قصره على السبب ، وإنما الخلاف حيث لم يعلم . قال : والطريق إلى هذه القرينة في كلام الله متعذر ، لا يعلم إلا من جهة الرسول ، أنه مقصور على ما خرج عليه ، وكذا قال ابن القشيري  بعد أن صحح عموم اللفظ : هذا في المطلق الذي لا يتقدم  [ ص: 289 ] 
خصوصه بدليل ، فإن علم بقرينة حال إرادة الخصوص ، مثل : أن يقول : كلم زيدا ، فيقال : والله لا تكلمت ، فيفهم أنه يريد لا تكلمت معه ، فلا يحمل في مثل هذا على التعميم انتهى . 
وفي قول القاضي    : لا خلاف في قصره على السبب نظر ، فقد سبق أن مذهب  مالك  في : لا أشرب لك ماء من عطش ، أنه يحنث بأكل طعامه ، ولبس ثيابه ، وأن مذهب  الشافعي  الاقتصار على مورد اليمين ، وهو الماء خاصة . 
وحكى الرافعي  في كتاب الأيمان عن " المبتدئ " للروياني    : أنه لو قيل : كلم زيدا ، فقال : والله لا كلمته ، انعقدت اليمين على الأبد ، إلا أن ينوي اليوم ، فإن كان ذلك في طلاق وقال أردت اليوم ، لم يقبل في الحكم . وقال الأصحاب فيمن دخل عليه صديقه ، فقال : تغد معي ، فامتنع فقال : إن لم تتغذ معي فامرأتي طالق ، فلم يفعل ، لا يقع الطلاق لو تغدى بعد ذلك معه ، وإن طال الزمان انحلت اليمين ، فإن نوى الحال فلم يفعل وقع الطلاق ، وهو يخالف قول الأصوليين : إن الجواب المستقل بنفسه والعرف يقضي بعدم استقلاله في حكمه الذي لا يستقل بوضعه فيكون على حسب السؤال . 
ورأى البغوي  حمل المطلق على الحال للعادة ، وهو يوافق قول ، الأصوليين . 
ولو دعي إلى موضع فيه منكر ، فحلف أنه لا يحضر في ذلك الموضع ، فإن اليمين تستمر . وإن رفع المنكر . كما قاله الرافعي    . 
وقال ابن دقيق العيد  في شرح الإلمام والعنوان : محل الخلاف فيما إذا لم يقتض السياق التخصيص به ، فإن كان السؤال والجواب منشؤهما يقتضي ذلك فهو مقتض للتخصيص بلا نزاع ، لأن السياق مبين  [ ص: 290 ] للمجملات ، مرجح لبعض المحتملات ، ومؤكد للواضحات . قال : فليتنبه لهذا ولا يغلط فيه ، ويجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن ، لأن بذلك يتبين مقصود الكلام . وصرح في شرح العنوان بأن ذلك بحث ، وكلام القاضي السابق يشهد له . 
الثاني : قال المازري    : لو خرجت المسألة على الخلاف في الألف واللام ، هل تقتضي الصيغ التي دخلت عليها العموم ، أو تحمل على العهد ؟ لكان لائقا ، فمن يقصر اللفظ على سببه يجعلها للعهد ، ومن يعممه لا يفعل ذلك ، وفيه نظر ، لأن ذلك الخلاف حيث لا قرينة تصرفه إلى العهد ، والقائلون بالتعميم في هذه الحالة هم معظم الأصوليين ، مع أن كثيرا منهم يقصرونه على السبب وعلى مقتضى ما قاله المازري  أورد بعض الأكابر سؤالا ، وهو أنه كيف يمكن الجمع بين قول النحاة : إنه متى أمكن حملها على العهد لا تحمل على العموم ، وقول الأصوليين : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ وأجيب بأنه لا تنافي بينهما ، لأن العموم لا ينحصر في الألف واللام ; بل له صيغ كثيرة ، فإن أورد ما إذا كانت الصيغة الألف واللام ، قلنا : إرادة العموم قرينة دلت على ذلك . وقال بعضهم : الصحيح أن العبرة بلفظه ، فيعم إلا إذا كان في اللفظ ما يمنع العموم كالألف واللام العهدية ، وهذا بناء على أن العهد هو الأصل فيها ، وإنما يصار إلى العموم عند عدم العهد . 
والحق أن السؤال غير لازم ، لأن الأصوليين لم يجمعوا بين المقالتين ، ولم يخالفوا أصلهم ، بل الأصل عندهم في الألف واللام العموم ، حتى يقوم دليل على خلافه ، فلهذا لم يقصروه على سببه ، وعند النحاة الأصل العهد حتى يقوم دليل على خلافه ، وقد سبق في الكلام على الصيغ أن معظم الأصوليين على أنها للعموم حيث لا قرينة تصرفها إلى العهد ، وأن المخالف فيه ابن مالك  ، وأن إلكيا الطبري  نقله عن  سيبويه    . لكن في نسبته لجميع  [ ص: 291 ] النجاة نظر ، فقد سبق عن أبي بكر بن السراج النحوي  موافقة الأصوليين . وأورد بعضهم السؤال لا على جهة الجمع ، فقال : إذا كانت القرينة تصرف إلى العهد ، وتمنع من الحمل على العموم ، فهلا جعلتم العام بالألف واللام مصروفا إلى العهد بقرينة السبب الخاص ، وقلتم : وإن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ؟ وأجاب بأن تقدم السبب الخاص قرينة في أنه مراد لا أن غيره ليس بمراد ، فنحن نعمل بهذه القرينة ، فنقول : دلالة هذا العام على محل السبب قطعية ، ودلالته على غيره ظنية ، إذ ليس في السبب ما يثبتها ، ولا ما ينفيها . 
والتحقيق : أن العدول عما يقتضيه السبب من الخصوص إلى العموم دليل على إرادة العموم    . وقد أشار إلى هذا  الزمخشري  في تفسير سورة البقرة ، قال : فإن قلت : فكيف قيل : مساجد الله ، وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد ، وهو بيت المقدس  ، أو المسجد الحرام  ؟ قلت    : لا بأس أن يجيء الحكم عاما ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال الله تعالى : {    . ويل لكل همزة    } والمنزول فيه الأخنس بن شريق    . قال : وينبغي أن يراد ب ( ممن منع ) العموم كما أريد بمساجد الله ، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم . 
				
						
						
