[ ص: 265 ] فصل 
في القرائن التي يظن أنها صارفة للفظ عن العموم    . وفيه مسائل : [ المسألة ] الأولى 
الخارج على جهة المدح أو الذم ، نحو { إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم    } ، وقوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة    } وقوله : { والذين هم لفروجهم حافظون    } والمراد مدح قوم وذم آخرين ، ويتعلق به ذكر الذهب والفضة ، وذكر النساء ، وملك اليمين ، ونحو ذلك ، ففي التعلق بعمومه وجهان لأصحابنا حكاهما أبو الحسين بن القطان  ،  والأستاذ أبو منصور  ، وسليم الرازي  ، وابن السمعاني  ، وغيرهم : 
أحدهما : أنه لا يقتضي العموم ، ونسب  للشافعي  ، ولهذا منع التمسك بآية الزكاة في وجوب زكاة الحلي ، لأن اللفظ لم يقع مقصودا له ، وربما نقلوا عنه أنه قال : الكلام مفصل في مقصوده ، ومجمل في غير مقصوده . 
ونقله  أبو بكر الرازي  عن القاشاني  ، ونقله ابن برهان  عن  الكرخي  وغيره . وقال إلكيا الهراسي    : إنه الصحيح . وبه جزم  القفال الشاشي  في كتابه ، فقال : لا يحكم العموم بمجرد الخطاب العام ، ولكن يكون المخصوص  [ ص: 266 ] بالذكر على ما حكم فيه ، ثم ينظر فيما عداه مما هو داخل تحته بدليل آخر لا للعموم ، وأطال في الاحتجاج بذلك . 
قال : فلا يحتج بقوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة    } على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما ، بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة ، وكذا لا يحتج بقوله : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم    } في بيان ما يحل منها وما لا يحل ، ولكن فيها بيان أن الفرج لا يجب حفظه عنهما ، ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما لا يحل بالنكاح أو بملك اليمين صير فيه إلى ما قصد تفصيله ، مثل : { حرمت عليكم أمهاتكم    } ونحوه . 
قال : ومن ضبط هذا الباب أفاده علما كثيرا ، واستراح من لا يرتب الخطاب على وجهه ، ولا يضعه موضعه . انتهى . وجزم به  القاضي الحسين  في تعليقه " في باب ما يحرم من النكاح ، وعبارته : قلنا : الآية إذا سيقت لبيان مقصود ، فإنما يوجب التعميم في محل المقصود ، فأما في محل غير المقصود والغرض بالخطاب فلا يقصد بالخطاب ، بل يعرض عنه صفحا ، كقوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض    } الآية ا هـ . 
والثاني : وعليه الجمهور أنه عام ، ولا تنافي بين قصد العموم والذم ، قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني    : إنه الظاهر من المذهب . وقال  الشيخ أبو حامد  وسليم الرازي  في " التقريب " : إنه المذهب ، وكذا قال ابن برهان  في " الأوسط " ، وقال ابن السمعاني  في " القواطع " : إنه المذهب الصحيح . قال : وكذا ذكره  الشيخ أبو حامد  وغيره من أئمتنا ، وصرحوا بأن المذهب الشافعي الصحيح عنده صحة ادعاء العموم فيه حتى لا يعارضه .  [ ص: 267 ] 
وقال  الأستاذ أبو منصور  في كتاب التحصيل " عليه أصحاب  الشافعي   وأبي حنيفة  وأكثر القائلين بالعموم ، ونقله ابن القطان  عن أهل الظاهر  ، وجزم به  الشيخ أبو إسحاق  في " شرح اللمع " وخطأ مخالفه ، وقال الأستاذ أبو إسحاق    : وقد جعله  الشافعي  في بعض المواضع طريق الترجيح ، ولا يعرف أنه جعله وجه المنع من الاستدلال بالظاهر . 
قلت    :  وللشافعي  في القديم ما يدل عليه ، فإنه ذهب فيه إلى أن النوم في الصلاة لا ينقض الوضوء  واحتج بقوله تعالى : { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما    } قال : فأخرجه مخرج المدح ، وما خرج مخرج المدح ينفى عنه إبطال العبادة ، واحتج في الجديد على أصحاب  مالك  في أن وقت المغرب يبقى إلى مغيب الشفق من حديث  أبي موسى الأشعري    ( أنه صلى المغرب في اليوم الأول عند غروب الشمس ، وفي الثاني عند مغيب الشفق ، ثم قال : ما بين هذين وقت المغرب ) وهذا نص في مساواتها في الوقت بغيرها ، فقال المعترض : يحمل على أنه أراد تعليم وقت الضرورة ، فقيل له : لم يقصد ذلك ، وإنما قصد تعليم أوائل أوقات الاختيار وآخرها ، لكن نص في موضع آخر على موافقة الوجه الأول ، فإن الحنفية احتجوا على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر بقول أهل الكتاب    : نحن أكثر أعمالا وأقل أجرا . قالوا : وهذا يدل على سعة الوقت ، فقال لهم : لم يقصد بالخبر ذلك ، لأن كثرة العمل وقلته لا تدل على ما ذكرتم ، فمنع التمسك بالعموم في غير مقصوده . 
وكذا يمنع تمسك الحنفية بحديث : { فيما سقت السماء العشر   } على وجوب الزكاة في الخضراوات    . وقال : إن الكلام إنما سيق لبيان الجزء الواجب ، لا لبيان الواجب فيه ، لكن الصحيح الأول . وإنما لم يقل به  [ ص: 268 ]  الشافعي  هنا لمعارض آخر ، لا لمجرد كونه مسوقا لغيره . هذا كله إذا لم يعارضه عموم آخر لم يقصد به المدح أو الذم ، فإن عارضه فلا خلاف على المذهب أنه يترجح الذي لم يسبق لذلك ، فيجري على عمومه ، ويقصر ما سيق للمدح أو الذم عليهما . هكذا قال  الأستاذ أبو منصور  في كتاب " التحصيل " وأبو الحسين بن القطان  في كتابه ،  والشيخ أبو حامد  وسليم الرازي  وابن السمعاني  في القواطع لكن حكى أبو عبد الله السهيلي  من أصحابنا وجها أنه يوقف هذان العامان إلى أن يتبين الحال كالمتعارضين ، وهو القياس . ومثال المسألة قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم    } فإنها سيقت لبيان أعيان المحرمات دون العدد مع قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع    } فإنه سيق للعدد ، وهو يعم الأخت وغيرها ، فيقضى بتلك لأنها مسوقة لبيان المحرم ، وكذا يقضى بها على { أو ما ملكت أيمانكم    } وكذا قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين    } مع قوله : { أو ما ملكت أيمانكم    } فالأولى سيقت لبيان الحكم ، فقدم على ما سياقها للمدح ، وكذا قوله : { حرمت عليكم الميتة والدم    } إذا قدرنا دخول الشعر فيها قدم على قوله : { ومن أصوافها    } . واعلم أن المسألة ليست مخصوصة بما سيق للمدح أو الذم ، بل هي عامة في كل ما سيق لغرض ، كما سبق من نحو ( فيما سقت السماء العشر ) وغيره . 
				
						
						
