[ المسألة ] الرابعة [ أقسام التأكيد ] 
ينقسم إلى لفظي ومعنوي  ، فاللفظي يجيء لخوف النسيان أو لعدم الإصغاء ، أو للاعتناء ، وهو تارة بإعادة اللفظ وتارة يقوى بمرادفه ، ويكون في المفردات والمركبات .  [ ص: 373 ] 
وزعم الرافعي  في الطلاق أنه أعلى درجات التأكيد قال إمام الحرمين    : وينبغي فيه شيئان : 
أحدهما : الاحتياط بإيصال الكلام إلى فهم السامع إن فرض ذهول أو غفلة . 
والثاني : إيضاح القصد إلى الكلام والإشعار بأن لسانه لم يسبق إليه ، ويمثله النحويون بقوله تعالى : { كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ، وجاء ربك والملك صفا صفا    } وجعلهم صفا صفا تأكيدا لفظيا مردود ، فإنه ليس بتأكيد قطعا بل هو تأسيس ، والمراد صفا بعد صف ، ودكا بعد دك ، وكذلك ألفاظه إذا كررت فكل منها بناء على حدته ، والعجب منهم كيف خفي عليهم . 
والمعنوي ، وهو إما أن يختص بالمفرد كالنفس والعين وجمعاء وكتعاء ، أو بالاثنين ككلا وكلتا ، أو بالجمع ككل وأجمعين ، وجمع وكتع . وكل وما في معناه للتجزؤ ، والنفس والعين للمتشخص غير المتجزئ ، وإما أن يختص بالجمل ككأن وإن وما في معناهما ، وفائدته : تمكين المعنى في نفس السامع ورفع التجاوزات المتوهمة ، فإن التجوز يقع في اللغة كثيرا فيطلق الشيء على أسبابه ومقدماته ، فإنه يقال : ورد البرد إذا وردت أسبابه ، ويطلق اسم الكل على البعض نحو { الحج أشهر معلومات    } { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين    } قيد بالكمال ليخرج احتمال توهم بعض الحول الثاني ، والتوكيد يحقق أن اللفظ حقيقة ، فإن قيل : إذا كان رافعا لاحتمال التخصيص في نحو : قام القوم كلهم وللمجاز في نحو ، جاء زيد نفسه ، فهذه فائدة جديدة ، فكيف أطبقوا على أن المقصود منه التقوية ؟ 
قلت : إن الاحتمال المرفوع تارة يكون اللفظ مترددا فيه وفي غيره على  [ ص: 374 ] السواء وتارة يكون احتمالا مرجوحا ، ورفع الاحتمال الأول فائدة زائدة ، لأن تردد اللفظ بينه وبين غيره ليس فيه دلالة على أحدهما ، كما أن الأعم لا يدل على الأخص ، فدفع ذلك الاحتمال تأسيس . أما الاحتمال المرجوح فهو مرفوع بظاهر اللفظ ، لأن اللفظ ينصرف إلى الحقيقة عند الإطلاق والتأكيد يقوي ذلك الظاهر . 
وهاهنا أمور : 
أحدها : أثبت ابن مالك  قسما ثالثا ، وهو ما له شبه بالمعنوي وشبه باللفظي ، وإلحاقه به أولى ، كقولك : أنت بالخير حقيق قمين . ونوزع في هذا المثال ، ولا نزاع لإجماع النحويين على أن من التوكيد مررت بكم أنتم . 
الثاني : هل أنه يوجب رفع احتمال المجاز أو يرجحه ؟  يخرج من كلام النحويين فيه قولان ، ففي " التسهيل " أنه رافع ، وكلام ابن عصفور  وغيره يخالفه وهو الحق ، وكلام إمام الحرمين  يقتضيه ، فإنه قال في " البرهان " : ومما زال فيه الناقلون عن الأشعري  ويقتضيه أن صيغة العموم مع القرائن  تبقى مترددة ، وهذا - وإن صح يحمل على توابع العموم كالصيغ المؤكدة . ا هـ . . 
فقد صرح بأن التأكيد لا يرفع احتمال الخصوص ، ويؤيده ما في الحديث ( فأحرموا كلهم إلا  أبو قتادة  لم يحرم ) فدخله التخصيص مع تأكيده ، وكذا قوله : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون    } إن كان الاستثناء متصلا ، وهل يجري ذلك في التوكيد اللفظي ؟ ظاهر كلام " الإيضاح البياني " نعم والذي صرح به النحاة أنه  [ ص: 375 ] لا يقتضي ذلك ، وأن القائل إذا قال : قام زيد زيد ، فإنما يفيد تقرير الكلام في ذهن السامع ، لا رفع التجوز . 
وحكى الرماني  في " شرح أصول ابن السراج    " ، الأمرين فقال في قوله تعالى : { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها    } : مخرجه مخرج التمكين ، وقد يكون لرفع المجاز ، إذ لا يمنع أن يقال : هم في الجنة خالدين في غيرها ، فأزيل هذا بالتأكيد ، ودل على أنهم في الجنة التي يدخلونها مخلدون فيها ، ولا ينقلون عنها إلى جنة أخرى 
الثالث : أن التوكيد اللفظي أكثر ما يقع مرتين كقوله : ألا حبذا حبذا حبذا ، وأما المعنوي فذكروا أن تلك الألفاظ كلها تجتمع ، والفرق أن هذا أثقل لاتحاد اللفظ . 
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام    : اتفق الأدباء على أن التأكيد إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرات يعني بالأصل ، وإلا ففي الحقيقة التأكيد بمرتين ، وأما قوله تعالى في المرسلات : { ويل يومئذ للمكذبين    } أي بهذا ، فلا يجتمعان على معنى واحد ، فلا تأكيد ، وكذلك { فبأي آلاء ربكما تكذبان    } ونحوه ، وكذلك قال السبكي  في " شرح الكافية " ، لم تتجاوز العرب  في تأكيد الأفعال ثلاثا كما فعلوا في تأكيد الأسماء . قال تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا    } فلم يزد على ثلاثة : مهل وأمهل ورويد ، وكلها لمعنى واحد . قال : ومما يدل على صحة هذا أن العرب  لا تكاد يكررون الفعل مع تأكيده بالنون خفيفة ولا شديدة ، لأن تكريره مع الخفيفة مرتين كالتلفظ به أربع مرات ، ومع الشديدة كالتلفظ به ست مرات . ا هـ . لكن فيما قاله نظر لما سبق في الإتباع أنه سمع خمسة مع أنه تأكيد في المعنى ، وقال  الزمخشري  في تفسير سورة الرحمن : كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به ، وينصح ثلاث مرات  [ ص: 376 ] وسبعا ، ليركزه في قلوبهم ويغرزه في صدورهم ، وفي الحديث الصحيح : { ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .   } ثم لا يشك أن الثلاثة في عادته صلى الله عليه وسلم كالمرة في حق غيره ، فعلم أنه كان قد زاد على الثلاث ، ثم مراد الشيخ التأكيد اللفظي ، أما المعنوي فنص النحويون على أن ألفاظه الصناعية كلها تجمع ، وفرقوا بما سبق . 
الرابع : أن التأكيد نظير الاستثناء  وحينئذ فيأتي فيه شروطه السابقة من اعتبار النية فيه ومحلها واتصاله بالمؤكد ، لكن جوز النحويون الفصل بينهما ، كقوله تعالى { ويرضين بما آتيتهن كلهن    } . 
الخامس : إن كون التوكيد يرفع التجوز إنما هو بالنسبة إلى الفاعل  ، فإذا قلت : جاء زيد احتمل مجيئه بنفسه ومجيء جيشه ، فإذا قلت : نفسه ، انتفى الثاني . أما التأكيد بالمصدر نحو ضربت ضربا ، فنص ثعلب  في أماليه " وابن عصفور  في " شرح الجمل الصغير " والأبذوي  في قوله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما    } أنه يدل على رفع المجاز ، وأنه كلمه بنفسه ، وهكذا احتج بها أصحابنا المتكلمون  المعتزلة  في إثبات كلام الله ، وهو غلط ، لأن التأكيد بالمصدر إنما يرفع التجوز عن الفعل نفسه لا عن الفاعل فإذا قلت : قام زيد قياما ، فالأصل قام زيد قام زيد ، فإن أردت تأكيد الفاعل أتيت بالنفس ، وهاهنا إنما أكد الفعل ، ولو قصد تأكيد الفاعل لقال : وكلم الله نفسه موسى  ، فلا حجة فيه إذن عليهم . 
السادس : في الفرق بين الترادف والتأكيد    : أن المؤكد يقوي المؤكد ، وهو اللفظ الأول كقولنا : جاء زيد نفسه ، بخلاف الترادف ، فإن كل واحد منهما يدل على المعنى بمجرده ، والتأكيد تقوية مدلول ما ذكر بلفظ آخر مستقل ليخرج التابع والفرق بينه وبين التابع قد سبق . 
				
						
						
