وقال ابن السمعاني    : أما المعارضة في حكم الفرع  فالصحيح أنه إذا ذكر المعلل علة في إثبات حكم الفرع ونفي حكمه ، فيعارضه خصمه بعلة أخرى توجب ما توجبه علة المعلل ، فتعارض العلتان فتمنعان من العمل إلا بترجيح إحداهما على الأخرى . وقد اختلف في قبول هذا الاعتراض : فرده بعضهم لا سيما المتأخرون من الجدليين ، محتجين بأن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت . قال الهندي    : وهو ظاهر إلا فيما إذا كانت المعارضة بفوات الشرط فإنا نبين عدم تمام دلالته إذ ذاك ، وإذا تمت دلالته فقد وفى بما التزم في الاستدلال ، فهو بعد ذلك مخير : إن شاء سمع المعارضة ، وإن شاء لم يسمع - كاستدلال مستأنف . 
وأيضا فإن حق المعترض أن يكون هادما لا بانيا ، والمعارضة في حكم الفرع بناء لا هدم ، بخلاف المعارضة في الأصل ، فإن حاصلها يرجع إلى منع المقدمة ، وهي كون الحكم معللا بما ذكر من الوصف فلا يلزم من قبولها ثم قبولها هنا . وقبله الأكثرون ، لقيام الإجماع على أن الدليل مع وجود المعارض عطل ، ولأن المستدل عند ورودها متحكم ، والتحكم باطل إجماعا ، ولأنه طريق للهدم ، وقد يتعين طريقا للهدم ، فلو لم يقبل لبطل مقصود المناظرة والبحث والاجتهاد ، ولأنها إنما تكون غصبا لمنصب التعليل أن لو ذكرها  [ ص: 423 ] المعترض لإثبات مذهبه . وهو لا يذكرها لذلك ، لاتفاق دليل خصمه . وهذا القول صححه الغزالي  في " المنخول " وقد رأيت ابن برهان  في " الأوسط " نقل عنه إبطال المعارضة ثم رأيت إلكيا الطبري  سبقه إلى نقل ذلك عنه فقال في كتاب " التلويح " : صار الغزالي  إلى بطلان المعارضة على ما سمعنا الإمام ينقله عنه وكان الحامل له على ذلك امتناع التناقض في أدلة الشرع ، فإذا اعترف السائل بصحة علة المعلل واستقلالها بالحكم ، والمسئول ينكر صحة تعليله . وإن هو أراد إظهاره فقد تناقض وقال بتعارض النصوص ، ولأن حق السائل أن يكون هادما غير بان ، والمعارضة تقتضي البناء إن كان الترجيح لتعليل السائل أو ساقطة إن كان الترجيح لعلة المسئول ، فلا يخلو من طرفي نقيض ووجهي فساد . 
ونحن نقول : السائل لم يقصد البناء ، وإنما يقصد الهدم ، فإن مقصوده إعانة المسئول على إتمام غرضه بإيضاح الترجيح ، ولا ينال هذه إلا بالمعارضة . ( قال ) : ولا خلاف أن المعلل لو استدل بظاهر فللسائل أن يؤول ويعتضد بالقياس ، وإذا صحت المعارضة فالسائل لا يرجح ، فإنه يكون بانيا ، هذا إذا أمكنه قطع الترجيح عن الدليل . فأما إذا كان الدليل في وضعه أرجح فلا وجه لمنعه على قول من قبل المعارضة ، فإنه ربما لا يجد غيره . فإن رجح المسئول مكن السائل من معارضة الترجيح ( انتهى ) . ثم لا يجب على المعترض أن يبين أن ما عارض به مساو لدليل المستدل ، بل يكفي منه بيان مطلق المعارض . وهذا بخلاف المستدل فإنه لا يكتفى منه في دفعها إلا ببيان أن دليله راجح على ما عارض به المعترض ، لأن المستدل مدع لاستقلال دليله بالحكم ، والمعارض منكر له ، والمنكر يكفيه مطلق الإنكار ، بخلاف المدعي .  [ ص: 424 ] وإذا تمت المعارضة من السائل فهل ينقطع المستدل أم يسمع منه الترجيح ؟ فقيل : ينقطع . والصحيح أنه ينقطع إن عجز عن ترجيح دليله . وجوابه بالقدح بما يرد على ذلك إن كان من جهة المستدل . 
واختلفوا في مسألتين : 
إحداهما : في دفعه بالترجيح بمرجح أقوى من مرجحه    : فقيل : يمنع ، لأنه وإن كان مرجوحا فلا يخرج عن كونه اعتراضا والمختار - ورجحه المحققون - جوازه لأنه موطن تعارض ، وقد لا يجد السائل غيره مرجحا . وقضية كلام إمام الحرمين  أن السائل إذا عارض المستدل بترجيح أقوى ، وهو قادر على ترجيح مساو فقد تعدى . وليس كذلك ، بل له المعارضة بالأقوى مع وجود المساوي  ، لأنه لم يذكر الأقوى من جهة كونه أقوى ، بل من جهة كونه معارضا ، ومزية القوة مصادفة . وقال ابن المنير    : الأولى أن يذكر الأقوى ، لأنه إذا ساغ له الترجيح المساوي فالأقوى أولى . وفيه لطيفة ، وهي أنه يوقف المستدل عن نوبة أخرى من الترجيح ، لأنه قد اختلف مثلها ، فيحتاج المستدل حينئذ إلى ترجيحين أو ترجيح أقوى من ذلك الأقوى فيضيق عليه نطاق الكلام وهو غرض المناظرة وفي ذكر الأقوى اختصار ( انتهى ) . ولا خلاف أنه لو قابل ترجيح المستدل لا يقبل الاستغناء به عن أحدهما ، فإن في الواحد كفاية ، والزيادة توجب الإثبات ، لأن ذلك غير منصبه . 
الثانية : هل يقبل معارضة المعارضة بدليل مستقل  ؟ اختلفوا على مذاهب : 
أحدها : نعم ، لأنه دليل كالأول ، فجاز أن يعارض . وعلى هذا يتساقطان ويسلم الدليل الأول من المعارض ، قال المقترح    : وكلام إمام الحرمين  في تعارض النصين يقتضي اختياره .  [ ص: 425 ] 
والثاني : لا يقبل وإن قبلنا أصل المعارضة ، لانتشار الكلام وأدائه إلى الانتقال ، وإذا قبلنا ترجيح المستدل لدليله على ما عارض به السائل ، فهل يشترط أن يكون منشأ الترجيح مذكورا في الدليل ؟ قيل : يجب ، لأنه لو تركه أولا لكان ذاكرا لبعض الدليل . وقيل : لا يجب ، لأن مراتب المعارضة لا يعرفها المستدل في بدء استدلاله ، فيؤدي إلى المشقة ، بخلاف الاحتراز لدفع النقض ، بدليل أنه إذا تعارض النصان سمع الترجيح من المستدل بالاتفاق ، مع أنه لا يشترط أن يكون في نص المستدل ما يشير إلى الترجيح . 
والثالث : وهو اختيار الآمدي  التفصيل : فإن كان التفصيل وصفا من أوصاف العلة تعين ذكره ، وإلا فلا ، لأنه قد أتى بكمال الدليل ، والترجيح أجنبي عنه . 
تنبيه : قسم ابن السمعاني  المعارضة إلى ما تكون بعلة أخرى ، وإلى ما هي بعلة المعلل بعينها  ، فالمعارضة بعلة أخرى تارة تكون في حكم الفرع ، وتارة في علة الأصل - وقد سبقا - وأما المعارضة بعلل المعلل  فتسمى ( قلبا ) وقد سبق حكمه . 
وقال إلكيا الطبري    : قسم الجدليون المعارضة إلى ثلاثة أقسام : معارضة الدعوى بالدعوى والخبر بالخبر ، والقياس بالقياس : - فأما معارضة الدعوى بالدعوى  فلا معنى لها إلا على تقدير وقع التشنيع . - وأما معارضة الخبر بالخبر  فصحيحة ، مثل أن يسأل عن قضاء الفوائت في الأوقات المنهي عنها  ، فيقول : لأنه عليه الصلاة والسلام قال :  [ ص: 426 ]   { من نام عن صلاة أو نسيها   } الحديث ، فيرجع الكلام بعده إلى الترجيح . - وأما معارضة المعنى بالمعنى  فعلى قسمين : ( أحدهما ) بين أصلين مختلفين . و ( الثاني ) من أصل واحد . ثم يتنوع نوعين : ( أحدهما ) في ضد حكمه فيكون معارضة صحيحة و ( الثاني ) في عين حكمه ولكن يتعذر الجمع بينهما . - فما كان بين أصلين مختلفين فهو الأصل في المعارضات . مثاله : طهارة الوضوء حكمية فتفتقر إلى النية ، قياسا على التيمم . فيقول المعارض : طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية ، قياسا على إزالة النجاسة فلا بد عند ذلك من الترجيح . - وأما ما كان من أصل واحد على الضد فضربان : ( أحدهما ) أن يجعل الأصل الواحد بينهما معنيين مختلفين . و ( الثاني ) أن يجعل نفس ما علل به معنى له . فالأول كقوله : لما كان عدد الأقراء معتبرا بالمرأة وجب أن يعتبر بها عدد الطلاق ، لأن البينونة متعلقة بها . فيعارضه بأنه يجب أن يعتبر بالفاعل قياسا على العدة . وفي الثاني يقول : نفس هذا المعنى يدل على أن الاعتبار بالفاعل ، كالعدة .  [ ص: 427 ] قال : وأما معارضة الفاسد بالفاسد  فهل تجوز ؟ إن أمكنه إيضاح الفساد فلا يمنع منها . ومثلها بقول بعضهم : لا يصير مفرطا بتأخير الزكاة ، فلا يلزم إخراجها إذا تلف المال أو مات    . فيقال : ولا يجب عليه الزكاة بحال من حيث إنه بتأخيرها ولا تركها أصلا 
( قال ) : وقد يعارض المحال بالمحال    : كقول الحنفي : ما أدركه المأموم من صلاة الإمام فهو آخر صلاته . فيقال له : لو جاز أن يكون آخر بلا أول جاز أن يكون أول بلا آخر ، ولو جاز أن يكون ماء لا نجس ولا طاهر جاز أن يكون ماء نجس وطاهر بناء على أن القابل للضدين لا يخلو عن أحدهما . 
( قال ) : وهذا النوع ليس بمعارضة حقيقة ولكن قصد به امتحان المذاهب . ( انتهى ) . ومسألة معارضة الدعوى بالدعوى سبقت في كلام  الأستاذ أبي منصور  وحكاية الخلاف فيها . وصرح الصيرفي  في كتاب " الدلائل والأعلام " بمنعها ، لعدم فائدتها ، إذ لا يلزم أحد بدعوى الآخر . قال الإمام    : إلا أن يكون قد أخرج دعواه مخرج الحجة فيعارض بمثلها . كقول المالكي : المستحاضة تستظهر ثلاثة أيام    . فقيل له : فما الفصل بينك وبين من قال : لا تستظهر ، أو تستظهر بيومين أو أكثر أو أقل ؟ فإن لم يكن هذا فالقول ساقط . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					