[ ردود العلماء على دعوى : إجماع أهل المدينة     ] ولم تزل هذه المسألة موصوفة بالإشكال ، وقد دارت بين  أبي بكر الصيرفي   وأبي عمر [ بن عبد البر ]  من المالكية . وصنف الصيرفي  فيها وطول في كتابه " الأعلام " الحجاج فيها مع الخصم ، وقال : قد تصفحنا قول من قال : العمل على كذا ، فوجدنا أهل بلده في عصره يخالفونه ، كذلك الفقهاء السبعة من قبله ، فإنه مخالفهم ، ولو كان العمل على ما وصفه لما جاز له  [ ص: 448 ] خلافهم ; لأن حكمه بالعمل كعلمهم لو كان مستفيضا . 
قال : وهذا عندي من قول  مالك  على أنه عمل الأكثر عنده ، وقد قال ربيعة  في قول : ادعى  مالك  العمل عليه ، فقال ربيعة    : وقال قوم : - وهم الأقل - ما ادعى  مالك  أنه عمل أهل البلد . وقال  مالك    : التسبيح في الركوع والسجود لا أعرفه  ، حكاه عنه  ابن وهب  ، ثم إنا رأينا ما ادعاه من العمل إنما علمنا عنه بخبر واحد ، كرواية القعنبي  ، وابن بكير  ، والسبكي  ، وابن مصعب  ، وابن أبي إدريس  ، وابن وهب  ، وهؤلاء كلهم يجوز عليهم العلم . 
ووجدنا في كتاب الموطإ هذه الحكاية ، ولم نشاهد العمل الذي حكاه ، ووجدنا الناس من أهل المدينة  وغيرهم على خلافه ، وقال  أبو حيان التوحيدي  في " البصائر " : سمعت  القاضي أبا حامد المروروذي  يقول : ليس الاعتماد في الإجماع على أهل المدينة  على ما رآه  مالك    ; لأن مكة  لم تكن دون المدينة  ، وقد أقام النبي - عليه الصلاة والسلام - بها كما أقام بالمدينة  ، ومن عدل عن مكة  وأهلها مع قيام النبي - عليه السلام - بين أظهرهم وسكانها الغاية في حمل الشريعة بغير حجة ، جاز أن يعدل خصمه عن المدينة  وأهلها بحجة . 
وذلك أن الشريعة كملت بين جميع أهل العصر الذين تحققوا النبي عليه الصلاة والسلام ، وحفظوا عنه ، وابتلوا بالحوادث ، فاستفتوه ، واختلفوا في الأحكام فاستقضوه ، وتخوفوا العواقب فاستظهروا به ، ثم إنهم بعد أن صار إلى الله كانوا بين مقيم بالمدينة  ، ومقيم بمكة  ، ونازل بينهما ، وظاهر عنهما إلى الأمصار البعيدة ، واستقرت الشريعة على الكتاب والسنة الشائعة ، والقياس المنتزع ، والرأي الحسن ، والإجماع المنعقد ، فلم  [ ص: 449 ] يكن بلد أولى من بلد ، ولا مكان أولى من مكان ، ولا ناس أولى وأحفظ لدين الله من ناس ، وهم في الإصابة شركاء ، وفي الحكم بما ألقى إليهم متفقون . قال : وكان يطيل الكلام في تهجير المدلين بهذا القول . ا هـ . وقال  ابن حزم  في الأحكام : هذا القول لصق به بعض المالكية محتجين بما روي في فضل المدينة  ، وليس ذلك لفضل أهلها ، وقد صح أن مكة  أفضل منها ، وقد كان الصحابة في غيرها ، وقد تركوا من عمل أهل المدينة  سجودهم مع  عمر  في { إذا السماء انشقت    } وسجودهم معه إذا قرأ السجدة ، ونزل عن المنبر فسجد ، وفعل  عمر  إذ أعلم عثمان  وهو يخطب يوم الجمعة بحضرة المهاجرين  والأنصار  ، فقالوا : ليس على ذلك العمل . وأيضا فإن  مالكا  لم يدع إجماع أهل المدينة  إلا في ثمان وأربعين مسألة في موطئه فقط  ، وقد تتبعنا ذلك فوجدنا منها ما هو إجماع ، ومنها ما الخلاف فيه موجود في المدينة  ، كوجوده في غيرها ، وكان  ابن عمر  وهو عميد أهل المدينة  يرى إفراد الأذان ، والقول فيه : حي على خير العمر ، وبلال يكرر قد قامت الصلاة ،  ومالك  لا يرى ذلك ، والزهري  يرى الزكاة في الخضراوات ،  ومالك  لا يراها ، ثم ذكر لهم مناقضات كثيرة . 
				
						
						
