ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم كان المعنى : فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون ، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين ، فعطف عليه قوله : والذين جاهدوا   أي : أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة فينا  أي : بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم  [ ص: 482 ] من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء ، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن  ، وشدائد المحن ، مستحضرين لعظمتنا. 
ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء هو المهتدي ، قال معبرا بالسبب عن المسبب : لنهدينهم  بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه ، هداية يليق بعظمتنا سبلنا  أي : لا سبل غيرها ، علما وعملا ، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا ، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئا لمن قاتل في سبيل الله  ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى : والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم  سيهديهم ويصلح بالهم  ولهذا كان  سفيان بن عيينة  يقول : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو  . 
ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا ، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية ، عظم التأكيد في قوله ، [لافتا الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجل عنه بما زاد من الجمال] وإن الله  أي : بعظمته وجلاله وكبريائه وجميع كماله لمعهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أراد الإعلام بإحسابهم وتعليق الحكم  [ ص: 483 ] بالوصف والتعميم فأظهر قائلا : لمع المحسنين  أي : كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم ، والثواب والمغفرة في عقباهم ، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة ، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب  ، وإن رأى الجاهل خلاف ذلك ، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر ، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر ، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان ، وما أحسن ما نقل الأستاذ أبو القاسم القشيري  في الرسالة عن الحارث المحاسبي  أنه قال : من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة ، والآية من الاحتباك : أثبت أولا الجهاد دليلا على حذفه ثانيا ، وثانيا : أنه مع المحسنين دليلا على حذف المعية والإحسان أولا ، فقد عانق أول السورة هذا الآخر ، وكان إليه أعظم ناظر ، فنسأل الله العافية من الفتن ، والمجاهدة إن كان لابد من المحن ، وإليه المآب.
				
						
						
