بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم سؤاله عما لم يخبرها به   ; مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها ، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها ، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده . 
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم  [ ص: 985 ] عفا الله عنها والله غفور حليم  قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين  
. . كان بعضهم يكثر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي . أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن ، وجعل الله في إجمالها سعة للناس . أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين . 
وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل : أفي كل عام ؟ فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملا : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا  والحج مرة يجزي  . فأما السؤال عنه أفي كل عام ؟ فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله . 
وفي حديث مرسل رواه  الترمذي   والدارقطني  عن  علي  رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا  قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام ؟ قال : "لا . ولو قلت نعم لوجبت " فأنزل الله : 
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   . . إلخ الآية  . 
وأخرجه  الدارقطني  أيضا عن أبي عياض  عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أيها الناس كتب عليكم الحج " . فقام رجل فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : "ومن القائل ؟ " قالوا : فلان . قال : "والذي نفسي بيده لو قلت : نعم . لوجبت . ولو وجبت ما أطقتموها . ولو لم تطيقوها لكفرتم " . فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   . . 
وفي حديث أخرجه  مسلم  في صحيحه عن  أنس  رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " . . . فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا " فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : "النار " فقام  عبد الله بن حذافة  فقال : "من أبي يا رسول الله ؟ " فقال : "أبوك حذافة   . . قال ابن عبد البر   :  عبد الله بن حذافة  أسلم قديما ، وهاجر إلى أرض الحبشة  الهجرة الثانية ، وشهد بدرا  ، وكانت فيه دعابة ! وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى كسرى  بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما قال : من أبي يا رسول الله ؟ قال "أبوك حذافة   " قالت أمه : ما سمعت بابن أعق منك . أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ؟ ! فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به  . . 
وفي رواية  لابن جرير   - بسنده - عن  أبي هريرة  قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ قال : "في النار " فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : "أبوك حذافة   " فقام  عمر بن الخطاب  ، فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد   - صلى الله عليه وسلم - نبيا وبالقرآن إماما . إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   . . الآية . 
وروى  مجاهد  عن  ابن عباس  أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وهو قول  سعيد بن جبير   . وقال : ألا ترى أن بعده : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام  ؟  [ ص: 986 ] ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها . . 
لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب ، ولا ليشرع شريعة فحسب . ولكن كذلك ليربي أمة ، وينشئ مجتمعا ، وليكون الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه . . وهو هنا يعلمهم أدب السؤال ، وحدود البحث ، ومنهج المعرفة . . وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة ، ويخبر بالغيب ، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها ; وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره . وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير . لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص ، والجري وراء الاحتمالات والفروض . كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه . والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم ، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم ، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم . وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة ; ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله . 
ولكن السؤال - في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن - قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم ، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم . 
لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها   ; وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها : 
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها   . 
أي : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة . . كأمره بالحج مثلا . . أو تركه ذكرها أصلا . . 
ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم - من أهل الكتاب - ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام . فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها . ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعباده ما شدد عليهم ، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران . 
ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة ، بلا شروط ولا قيود ، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة . . أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف . وفي كل مرة كان يشدد عليهم . ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم . وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه ! . . 
ولقد كان هذا شأنهم دائما حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة ! 
وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ذروني ما تركتكم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم  . 
وفي الصحيح أيضا : " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها . وسكت عن أشياء رحمة بكم - غير نسيان - فلا تسألوا عنها  . . 
وفي صحيح  مسلم  عن  عامر بن سعد  عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته  . . .  [ ص: 987 ] ولعل مجموعة هذه الأحاديث - إلى جانب النصوص القرآنية - ترسم منهج الإسلام في المعرفة . . 
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة . . فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه ، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية . وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به . فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه ; فإنه لا يصل إلى شيء أبدا ، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها . . فهو جهد ضائع . فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل ، يؤدي إلى الضلال البعيد . 
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام . . وهذا هو منهج الإسلام . . 
ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي - وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال - ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام . 
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه ; فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل ; وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص ، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني : 
كان  عمر بن الخطاب   - رضي الله عنه - يلعن من سأل عما لم يكن  . . ذكره  الدارمي  في مسنده . . وذكر عن  الزهري  قال : بلغنا أن  زيد بن ثابت الأنصاري  كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان ، حدث فيه بالذي يعلم . وإن قالوا : لم يكن ، قال : فذروه حتى يكون  . وأسند عن  عمار بن ياسر   - وقد سئل عن مسألة - فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا . قال : دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم  . 
وقال  الدارمي   : حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة  ، قال : حدثنا ابن فضيل  ، عن  عطاء  ، عن  ابن عباس  ، قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : . . يسألونك عن الشهر الحرام   .. ويسألونك عن المحيض   . . وشبهه . . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم  . 
وقال  مالك   : أدركت هذا البلد (يعني المدينة   ) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة . فإذا نزلت نازلة ، جمع الأمير لها من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه أنفذه . وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ! 
وقال القرطبي  في سياق تفسيره للآية : روى  مسلم  عن  المغيرة بن شعبة  عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعا وهات . وكره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال  . . قال كثير من العلماء : المراد بقوله : "وكثرة السؤال " : التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل  ، والأغلوطات ، وتشقيق المولدات . وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف . ويقولون : إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها . . 
إنه منهج واقعي جاد . يواجه وقائع الحياة بالأحكام ، المشتقة لها من أصول شريعة الله ، مواجهة عملية واقعية . . مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها ، ثم تقضي فيها بالحكم الذي  [ ص: 988 ] يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا . . 
فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع ، فهو استفتاء عن فرض غير محدد . وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع . والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غير محدد . والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة ; كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم . 
ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله ، والفتوى على هذا الأساس ! . . إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ . . فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله ; ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس . . أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه . . فما استفتاء المستفتي ؟ وما فتوى المفتي ؟ إنهما - كليهما - يرخصان شريعة الله ، ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء ! 
ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة . . إنها دراسة للتلهية ! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها ! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ، ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام ! 
إن هذا الدين جد . وقد جاء ليحكم الحياة . جاء ليعبد الناس لله وحده ، وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان ، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله ، لا إلى شرع أحد سواه . . وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها ; ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها ، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها . 
ولم يجئ هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار . ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة . ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع ، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية في الهواء ! 
هذا هو جد الإسلام . وهذا هو منهج الإسلام . فمن شاء من "علماء " هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة . أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء ! 
ويبدو بالاستناد إلى رواية  مجاهد  عن  ابن عباس   - رضي الله عنه - ومن قول  سعيد بن جبير  كذلك في أسباب نزول الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم  أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية . ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان . ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالا ما . . فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					