وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله ، يعود السياق ، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء : 
وكتبنا عليهم فيها: أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص    . . 
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام ، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين  ، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام ، لاعتبارات عملية بحتة ; حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها ، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة ، للأزمان كافة ، كما أرادها الله . 
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى : 
فمن تصدق به فهو كفارة له   . . 
ولم يكن ذلك في شريعة التوراة . إذ كان القصاص حتما ; لا تنازل فيه ، ولا تصدق به ، ومن ثم فلا كفارة . . 
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال . 
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص ، هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس ، فتقتص للنفس بالنفس ، وتقتص للجوارح بمثلها ، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . . 
النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .  [ ص: 899 ] إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد "الإنسان " الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا : في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا : في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة . 
وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي . 
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ; لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : ليس علينا في الأميين سبيل  بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة  الذليلة ، وبني النضير  العزيزة ; حتى جاءهم محمد   - صلى الله عليه وسلم - فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة - ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء ! 
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ; وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ; وإذا أتلف عينا أو أذنا أو أنفا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . 
وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير آلام السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . 
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ; والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . . 
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو ; عفو القادر على القصاص : 
فمن تصدق به فهو كفارة له  
من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل (والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تعزير القاتل بما يراه ) أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروح كلها ، فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ; يحط بها الله عنه . 
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ; ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ؟ . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . . 
روى  الإمام أحمد   . قال : حدثنا  وكيع  ، حدثنا  يونس بن أبي إسحاق  ، عن  أبي السفر  ، قال : كسر رجل من قريش  سن رجل من الأنصار   . فاستعدى عليه  معاوية   . فقال  معاوية   : سنرضيه . . فألح الأنصاري . .  [ ص: 900 ] فقال  معاوية   : شأنك بصاحبك ! -  وأبو الدرداء  جالس - فقال  أبو الدرداء   : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصاري : "فإني قد عفوت " . . وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال  معاوية  الذي لوح له به للتعويض  . . 
وتلك شريعة الله العليم بخلقه ; وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ويسكب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام . 
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام : 
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون   . . 
والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ; ولكن الوصف الجديد هنا هو "الظالمون " . 
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعريضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد . 
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : ومن لم يحكم بما أنزل الله   . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ; ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو "من " المطلق العام . 
				
						
						
