ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا   أخرج الإمام  أحمد  وجماعة عن  ابن عباس  قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد  جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا  " وفي لفظ : " قالوا : من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل هؤلاء الآيات  " . 
وأخرج  الترمذي  وحسنه  والحاكم  وصححه ، وغيرهما عن  جابر بن عبد الله  قال : لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا  جابر  ما لي أراك منكسرا ؟ فقلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا ، فقال : ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك ؟ قلت : بلى . قال : ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمن علي أعطك ، قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ، قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون . قال : أي ربي فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية "  . 
ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع ، وأنزل الله تعالى الآية لهما ، والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد  ، وفي رواية  ابن المنذر  عن إسحاق بن أبي طلحة  قال : حدثني  أنس  في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة  وساق الحديث بطوله - إلى أن قال - وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا : بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا ، فأنزل الله تعالى : ولا تحسبن  إلخ  . 
ومن هنا قيل : إن الآية نزلت فيهم ، وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك ، وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر  ، وادعى العلامة السيوطي  أن ذلك غلط ، وأن آية البقرة هي النازلة فيهم ، وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر ، بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا . 
وقيل : من المنافقين الذين قالوا : ( لو أطاعونا وقعدوا ) وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الاعتداد به ، وقرئ ( يحسبن ) بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب ، وقيل : إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا . 
واعترضه  أبو حيان  بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا ، ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي  البتة ، وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى ، وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا  [ ص: 122 ] على الصحيح بل اقتصارا ، و (ما) هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الاقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله . 
وذكر العلامة الطيبي  أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب  الأخفش  ، وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا ، أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا ، والمراد لا يحسبن أنفسهم ، واعترضه  أبو حيان  بشيء آخر أيضا ، وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن ليس هذا منها ، ورده  السفاقسي  بأنه وإن لم يكن هذا منها ، لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز ، لأنه مقدم معنى ، وتعدي أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز ، وقد ظن السيرافي  وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين ، وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض ، فالاعتراض عليه في غاية الغرابة ، ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء بأن يتسلوا بذلك ، ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم ، لكن لا في جميع أوقاتهم ، بل عند ابتداء القتل ، إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ، ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه ، قاله شيخ الإسلام   . 
وقيل : هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك ، وإن قل ، أو هو نهي عن حسبانهم أنفسهم أمواتا في وقت ما ، وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم ، وقرئ (ولا تحسبن) بكسر السين ، وقرأ  ابن عامر   (قتلوا) بالتشديد لكثرة المقتولين . 
بل أحياء  أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك ، وقرئ بالنصب ، وخرجه  الزجاج  على أنه مفعول لمحذوف أي بل احسبهم أحياء ، ورده الفارسي  بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان ، وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه ، على أن تقدير اجعلهم قال فيه  أبو حيان   : إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم ، نعم قال  السفاقسي   : يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم ، لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله ، وأجاب الجلبي  بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم ، لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف ، وإن كانت دلالة اللفظ أحسن ، وقال العلامة الثاني : لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك ، والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار  أمرا بالقياس وتحصيل الظن ، وقال بعضهم : المراد اليقين ، ويقدر أحسبهم للمشاكلة ، ولا يخفى أنه تعسف ؛ لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد . 
عند ربهم  في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في (أحياء) . وجوز  أبو البقاء  كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده ، و(عند) هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول : هذا عند  أبي حنيفة  رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام ، بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية ، وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق ، أي أن حياتهم متحققة لا شبهة فيها ، ولا يخفى أن المقام مقام مدح ، فتفسير العندية بالقرب أنسب به . 
وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم . 
يرزقون  صفة لأحياء ، أو حال من الضمير فيه أو في الظرف ، وفيه تأكيد لكونهم أحياء ، وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه ، والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى ، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة ، بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ، ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء ، وخبر القناديل لا ينور كلامه ، ولا يزيل ظلامه .  [ ص: 123 ] فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					