[ ص: 241 ] باب المزارعة ( 4138 ) مسألة : قال : ( وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ) معنى المزارعة : دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها ، والزرع بينهما . وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم ، قال  البخاري    : قال أبو جعفر    : ما بالمدينة  أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع ، وزارع  علي   وسعد  ،  وابن مسعود  ،  وعمر بن عبد العزيز  ، والقاسم  ،  وعروة  ، وآل  أبي بكر  ، وآل  علي  ،  وابن سيرين  
وممن رأى ذلك  سعيد بن المسيب  ،  وطاوس  ، وعبد الرحمن بن الأسود  ، وموسى بن طلحة  ، والزهري  ،  وعبد الرحمن بن أبي ليلى  ، وابنه ،  وأبو يوسف  ،  ومحمد    . وروي ذلك عن  معاذ  ،  والحسن  ، وعبد الرحمن بن يزيد    . قال  البخاري    : وعامل  عمر  الناس على أنه إن جاء  عمر  بالبذر من عنده ، فله الشطر ، وإن جاءوا بالبذر ، فلهم كذا . وكرهها عكرمة  ،  ومجاهد  ،  والنخعي  ،  وأبو حنيفة  
وروي عن  ابن عباس  الأمران جميعا . وأجازها  الشافعي  في الأرض بين النخيل ، إذا كان بياض الأرض أقل ، فإن كان أكثر فعلى وجهين . ومنعها في الأرض البيضاء ; لما روى {  رافع بن خديج  قال : كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكر أن بعض عمومته أتاه ، فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا ، وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع . قال قلنا : ما ذاك ؟ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له أرض فليزرعها ، ولا يكريها بثلث ولا بربع ، ولا بطعام مسمى   } وعن {  ابن عمر  ، قال : ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعت  رافع بن خديج  يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها   } . وقال  جابر    : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة   } . وهذه كلها أحاديث صحاح ، متفق عليها . 
والمخابرة    : المزارعة . واشتقاقها من الخبار ، وهي الأرض اللينة ، والخبير : الأكار . وقيل : المخابرة معاملة أهل خيبر    . وقد جاء حديث  جابر  مفسرا ، فروى  البخاري ،  عن  جابر  ، قال : كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم {   : من كانت له أرض فليزرعها ، أو ليمنحها ، فإن لم يفعل ، فليمسك أرضه .   } وروي تفسيرها عن  زيد بن ثابت  ، فروى أبو داود  ، بإسناده عن زيد  قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة . قلت : وما المخابرة ؟ قال : أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع   } 
. ولنا ما روى  ابن عمر  ، قال : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر  بشطر ما يخرج منها ، من زرع أو ثمر   } . متفق عليه . وقد روى ذلك  ابن عباس   وجابر بن عبد الله  
صلى الله عليه وسلم وقال أبو جعفر    : { عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر  بالشطر ، ثم  أبو بكر  ، ثم  عمر  ،  وعثمان  ،  وعلي  ، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع .   } 
وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ، ثم أهلوهم من بعدهم ، ولم يبق بالمدينة  أهل بيت إلا وعمل به ، وعمل به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من  [ ص: 242 ] بعده ، فروى  البخاري  
عن  ابن عمر  ، أن النبي صلى الله عليه وسلم { عامل أهل خيبر  بشطر ما يخرج منها ، من زرع أو ثمر ، فكان يعطي أزواجه مائة وسق ، ثمانون وسقا تمرا ، وعشرون وسقا شعيرا ، فقسم  عمر  خيبر  ، فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الأرض والماء ، أو يمضي لهن الأوسق ، فمنهن من اختار الأرض ، ومنهن من اختار الأوسق ، فكانت  عائشة  اختارت الأرض .   } ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ ; لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما شيء عمل به إلى أن مات ، ثم عمل به خلفاؤه بعده ، وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه ، وعملوا به ، ولم يخالف فيه منهم أحد ، فكيف يجوز نسخه ، ومتى كان نسخه ؟ فإن كان نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف عمل به بعد نسخه ، وكيف خفي نسخه ، فلم يبلغ خلفاءه ، مع اشتهار قصة خيبر  ، وعملهم فيها ؟ فأين كان راوي النسخ ، حتى لم يذكره ، ولم يخبرهم به ؟ فأما ما احتجوا به 
فالجواب عن حديث  رافع  ، من أربعة أوجه : أحدها أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده ، فإنه قال : كنا من أكثر الأنصار حقلا ، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ، ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك ، فأما بالذهب والورق ، فلم ينهنا ، متفق عليه . وفي لفظ : فأما بشيء معلوم مضمون ، فلا بأس . وهذا خارج عن محل الخلاف ، فلا دليل فيه عليه ، ولا تعارض بين الحديثين . الثاني أن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع ، والنزاع في المزارعة ، ولم يدل حديثه عليها أصلا ، وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا ; لأن القصة واحدة ، رويت بألفاظ مختلفة ، فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر . 
الثالث أن أحاديث  رافع  مضطربة جدا ، مختلفة اختلافا كثيرا . يوجب ترك العمل بها لو انفردت ، فكيف يقدم على مثل حديثنا ؟ قال الإمام  أحمد    : حديث  رافع  ألوان . وقال أيضا : حديث  رافع  ضروب . وقال  ابن المنذر    : قد جاءت الأخبار عن  رافع  بعلل تدل على أن النهي كان لذلك ، منها الذي ذكرناه ، ومنها خمس أخرى . وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة ;  زيد بن ثابت  ،  وابن عباس  
قال  زيد بن ثابت    : أنا أعلم بذلك منه ، وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين قد اقتتلا ، فقال : " إن كان هذا شأنكم ، فلا تكروا المزارع " رواه أبو داود   والأثرم    . وروى  البخاري  ، عن عمرو بن دينار  ، قال : قلت  لطاوس    : لو تركت المخابرة ، فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها . قال : إن أعلمهم يعني  ابن عباس  أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال : " أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما " 
ثم إن أحاديث  رافع  منها ما يخالف الإجماع ، وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ، ومنها ما لا يختلف في فساده ، كما قد بينا ، وتارة يحدث عن بعض عمومته ، وتارة عن سماعه ، وتارة عن ظهير بن رافع  ، وإذا كانت  [ ص: 243 ] أخبار  رافع  هكذا ، وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر  ، الجارية مجرى التواتر ، التي لا اختلاف فيها ، وبها عمل الخلفاء الراشدون وغيرهم ، فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية . 
الجواب الرابع أنه لو قدر صحة خبر  رافع  ، وامتنع تأويله ، وتعذر الجمع ، لوجب حمله على أنه منسوخ ; لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ، ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر    ; لكونه معمولا به من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إلى حين موته ، ثم من بعده إلى عصر التابعين ، فمتى كان نسخه ؟ وأما حديث  جابر  في النهي عن المخابرة ، فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر  رافع    ; فإنه قد روى حديث خيبر  أيضا ، فيجب الجمع بين حديثيه ، مهما أمكن ، ثم لو حمل على المزارعة ، لكان منسوخا بقصة خيبر    ; لاستحالة نسخها كما ذكرنا ، وكذلك القول في حديث  زيد بن ثابت  
فإن قال أصحاب  الشافعي    : تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل ، وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء جمعا بينهما . قلنا : هذا بعيد لوجوه خمسة : أحدها أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتي منها أربعون ألف وسق ، ليس فيها أرض بيضاء ، ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض ، فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل ، مع الحاجة إليه . 
الثاني أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه ، وما ذكرناه دلت عليه بعض الروايات ، وفسره الراوي له بما ذكرناه ، وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث ، والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لا دليل عليه . 
الثالث أن قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين ، وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده . 
الرابع أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين ، وأهليهم ، وفقهاء الصحابة ، وهم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ومعانيها ، وهو أولى من قول من خالفهم . الخامس ، أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه ، فإن أبا جعفر  روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة  ، وعن الخلفاء الأربعة وأهليهم ، وفقهاء الصحابة واستمرار ذلك ، وهذا مما لا يجوز خفاؤه ، ولم ينكره من الصحابة منكر ، فكان إجماعا 
وما روي في مخالفته ، فقد بينا فساده ، فيكون هذا إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم ، لا يسوغ لأحد خلافه . والقياس يقتضيه ، فإن الأرض عين تنمى بالعمل فيها ، فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها ، كالأثمان في المضاربة ، والنخل في المساقاة ، أو نقول : أرض ، فجازت المزارعة عليها ، كالأرض بين النخيل . ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة ; لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها ، والعمل عليها ، والأكرة يحتاجون إلى الزرع . ولا أرض لهم ، فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة  ، كما قلنا في المضاربة والمساقاة 
بل الحاجة ها هنا آكد ; لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره ، لكونه مقتاتا ، ولكون الأرض لا ينتفع بها إلا بالعمل عليها ، بخلاف المال ، ويدل على ذلك قول راوي حديثهم : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا . والشارع لا ينهى عن المنافع ، وإنما ينهى عن المضار والمفاسد ، فيدل ذلك على غلط الراوي في النهي عنه ، وحصول المنفعة فيما ظنه منهيا عنه . إذا ثبت هذا ، فإن حكم المزارعة حكم المساقاة ، في أنها إنما تجوز بجزء للعامل من الزرع ، وفي جوازها ، ولزومها ، وما يلزم العامل ورب الأرض ، وغير ذلك من أحكامها . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					