( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين    ) . 
قوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين  والأقربين بالمعروف حقا على المتقين    ) . 
اعلم أن قوله تعالى : ( كتب عليكم    ) يقتضي الوجوب على ما بيناه ، أما قوله : ( إذا حضر أحدكم الموت    ) فليس المراد منه معاينة الموت ؛ لأن في ذلك الوقت يكون عاجزا عن الإيصاء ، ثم ذكروا في تفسيره   [ ص: 51 ] وجهين : 
الأول : وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت ، وهو المرض المخوف ، وذلك ظاهر في اللغة ، يقال فيمن يخاف عليه الموت : إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد : إنه قد وصل . 
والثاني : قول الأصم    : إن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا : إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا . 
قال القاضي    : والقول الأول أولى لوجهين : 
أحدهما : أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز . 
والثاني : أن ما ذكرناه هو الظاهر ، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره . 
أما قوله : ( إن ترك خيرا    ) فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله : ( وما تنفقوا من خير    ) [ البقرة : 272 ] ، ( وإنه لحب الخير    ) [ العاديات : 8 ] ( من خير فقير    ) [ القصص : 24 ] وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قولان : 
أحدهما : أنه لا فرق بين القليل والكثير ، وهو قول  الزهري  ، فالوصية واجبة في الكل ، واحتج عليه بوجهين : 
الأول : أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيرا  ، والمال القليل خير ، يدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره    ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] وأيضا قوله تعالى : ( لما أنزلت إلي من خير فقير    ) [ القصص : 24 ] ، وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك ، فيكون خيرا . 
الحجة الثانية : أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر ، بدليل قوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا    ) [ النساء : 7 ] فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية . 
والقول الثاني : وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير ، واحتجوا عليه بوجوه : 
الأول : أن من ترك درهما لا يقال : إنه ترك خيرا ، كما يقال : فلان ذو مال ، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة ، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير ، وكذلك إذا قيل : فلان في نعمة ، وفي رفاهية من العيش . فإنما يراد به تكثير النعمة ، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله ، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه ، كما قد روي من قوله : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد   " وقوله : " ليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره جائع   " ونحو هذا . 
الحجة الثالثة : لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك ، سواء كان قليلا ، أو كثيرا ، لما كان التقييد بقوله : ( إن ترك خيرا    ) كلاما مفيدا ؛ لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئا ما ، قليلا كان أو كثيرا ، أما الذي يموت عريانا ولا يبقى معه كسرة خبز ، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته ، فذاك في غاية الندرة ، فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير ، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا ؟ فيه قولان : 
القول الأول : أنه مقدر بمقدار معين ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فروي عن علي  رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أولا أوصي ؟ قال : لا إنما قال الله تعالى : ( إن ترك خيرا    ) وليس لك كثير مال ، وعن  عائشة  رضي الله عنها أن رجلا قال : إني أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك ؟ قال ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك ؟ قال أربعة قالت : قال الله ( إن ترك خيرا    ) وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ، وعن  ابن عباس    : إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى   . وعن قتادة    : ألف درهم ، وعن  النخعي    : من ألف وخمسمائة درهم . 
 [ ص: 52 ] والقول الثاني : أنه غير مقدر بمقدار معين . بل يختلف ذلك باختلاف حال الرجال ؛ لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني ، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغنى لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة ، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقا بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد ، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول : لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					