[ ص: 167 ]   ( سورة المدثر ) 
خمسون وست آيات ، مكية ، وعند بعضهم أنها أول ما نزل 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( يا أيها المدثر    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : ( المدثر    ) أصله المتدثر ، وهو الذي يتدثر بثيابه لينام ، أو ليستدفئ ، يقال : تدثر بثوبه ، والدثار اسم لما يتدثر به ، ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما . 
المسألة الثانية : أجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثرا ، فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثرا بثوبه ، ومنهم من ترك هذا الظاهر . أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه : 
أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن  ، روى  جابر بن عبد الله  أنه عليه الصلاة والسلام قال : " كنت على جبل حراء  ، فنوديت يا محمد  إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساري ، فلم أر شيئا ، فنظرت فوقي ، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض ، فخفت ورجعت إلى  خديجة  ، فقلت : دثروني دثروني ، وصبوا علي ماء باردا ، فنزل جبريل  عليه السلام بقوله : ( ياأيها المدثر    )   " . 
وثانيها : أن النفر الذين آذوا رسول الله  ، وهم أبو جهل  وأبو لهب  وأبو سفيان  والوليد بن المغيرة  والنضر بن الحارث  وأمية بن خلف  والعاص بن وائل  اجتمعوا ، وقالوا : إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد  ، فكل واحد منا يجيب بجواب آخر ، فواحد يقول : مجنون ، وآخر يقول : كاهن ، وآخر يقول : شاعر ، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة ، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد  باسم واحد ، فقال واحد : إنه شاعر . فقال الوليد    : سمعت كلام عبيد بن الأبرص  ، وكلام  أمية بن أبي الصلت  ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، وقال آخرون : كاهن . قال الوليد    : ومن الكاهن ؟ قالوا : الذي يصدق تارة ويكذب أخرى . قال الوليد    : ما كذب محمد  قط ، فقال آخر : إنه مجنون . فقال الوليد    : ومن يكون المجنون ؟ قالوا : مخيف الناس ، فقال الوليد    : ما أخيف بمحمد  أحد قط ، ثم قام الوليد  وانصرف إلى   [ ص: 168 ] بيته ، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة  ، فدخل عليه أبو جهل  ، وقال مالك    : يا أبا عبد شمس  ؟ هذه قريش  تجمع لك شيئا ، زعموا أنك احتججت وصبأت ، فقال الوليد    : ما لي إليه حاجة ، ولكني فكرت في محمد    . فقلت : إنه ساحر ، لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين ، وبين المرأة وزوجها ، ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد  عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب ، ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة  والناس مجتمعون ، فقالوا : إن محمدا  لساحر ، فوقعت الضجة في الناس أن محمدا  ساحر ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ، ورجع إلى بيته محزونا فتدثر بثوبه ، فأنزل الله تعالى : ( ياأيها المدثر  قم فأنذر    )   . 
وثالثها : أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما متدثرا بثيابه ، فجاءه جبريل  عليه السلام وأيقظه ، وقال : ( ياأيها المدثر  قم فأنذر    ) كأنه قال له : اترك التدثر بالثياب والنوم ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له . 
القول الثاني : أنه ليس المراد من ( المدثر    )  المتدثر بالثياب ، وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه : 
أحدها : أن المراد كونه متدثرا بدثار النبوة والرسالة ، من قولهم : ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم ، ويقال : تلبس فلان بأمر كذا ، فالمراد ( ياأيها المدثر    ) بدثار النبوة ( قم فأنذر    ) . 
وثانيها : أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه ، وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء  كان كالمختفي من الناس ، فكأنه قيل : يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء ، قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول واشتغل بإنذار الخلق والدعوة إلى معرفة الحق . 
وثالثها : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين ، فكأنه قيل له : يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم ، والخلق الكريم ، والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك . 
المسألة الثالثة : عن عكرمة  أنه قرأ على لفظ اسم المفعول من دثره ، كأنه قيل له : دثرت هذا الأمر وعصيت به ، وقد سبق نظيره في المزمل . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					