( ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : هذا التكليف يشتمل على أنواع من الفوائد : 
أولها : إعظام الرسول عليه السلام وإعظام مناجاته ، فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه ، وإن وجده بالسهولة استحقره . 
وثانيها :   [ ص: 236 ] نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة . 
وثالثها : قال  ابن عباس    : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت هذه الآية شح كثير من الناس فكفوا عن المسألة . 
ورابعها : قال  مقاتل بن حيان    : إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة ، فأما الأغنياء فامتنعوا ، وأما الفقراء فلم يجدوا شيئا ، واشتاقوا إلى مجلس الرسول عليه السلام ، فتمنوا أن لو كانوا يملكون شيئا فينفقونه ويصلون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعند هذا التكليف ازدادت درجة الفقراء عند الله ، وانحطت درجة الأغنياء . 
وخامسها : يحتمل أن يكون المراد منه التخفيف عليه ؛ لأن أرباب الحاجات كانوا يلحون على الرسول ، ويشغلون أوقاته التي هي مقسومة على الإبلاغ إلى الأمة وعلى العبادة ، ويحتمل أنه كان في ذلك ما يشغل قلب بعض المؤمنين ؛ لظنه أن فلانا إنما ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر يقتضي شغل القلب فيما يرجع إلى الدنيا . 
وسادسها : أنه يتميز به محب الآخرة عن محب الدنيا ، فإن المال محك الدواعي . 
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبا ؛ لأن الأمر للوجوب ، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية : ( فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم    ) فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه ، ومنهم من قال : إن ذلك ما كان واجبا ، بل كان مندوبا ، واحتج عليه بوجهين : 
الأول : أنه تعالى قال : ( ذلك خير لكم وأطهر    ) وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض . 
والثاني : أنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به ، وهو قوله : ( أأشفقتم أن تقدموا    ) إلى آخر الآية . 
والجواب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فالواجب أيضا يوصف بذلك . 
والجواب عن الثاني : أنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة كونهما متصلتين في النزول ، وهذا كما قلنا في الآية الدالة على وجوب الاعتداد بأربعة أشهر وعشر إنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدما في التلاوة على المنسوخ ، ثم اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ ، فقال الكلبي    : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ ، وقال  مقاتل بن حيان    : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ . 
المسألة الثالثة : روي عن علي  عليه السلام أنه قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم ، فكلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، وروي عن  ابن جريج  والكلبي  وعطاء  ، عن  ابن عباس    : أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يناجه أحد إلا علي  عليه السلام ، تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة . 
قال القاضي والأكثر في الروايات : أنه عليه السلام تفرد بالتصدق قبل مناجاته ، ثم ورد النسخ ، وإن كان قد روي أيضا أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك ، وإن ثبت أنه اختص بذلك فلأن الوقت لم يتسع لهذا الغرض ، وإلا فلا شبهة أن أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله ، وأقول على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك ، فهذا لا يجر إليهم طعنا ، وذلك الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير ، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ، ويوحش الغني فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن فيمن لم يفعل ، فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء ، لم يكن في تركه كبير مضرة ؛ لأن الذي يكون سببا للألفة أولى مما يكون سببا للوحشة ، وأيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات   [ ص: 237 ] ولا من الطاعات المندوبة ، بل قد بينا أنهم إنما كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ، ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن . 
المسألة الرابعة : روي عن  علي بن أبي طالب  عليه السلام أنه قال : لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما تقول في دينار ؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : كم ؟ قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد " والمعنى : إنك قليل المال فقدرت على حسب حالك . 
أما قوله تعالى : ( خير لكم وأطهر    ) أي ذلك التقديم خير لكم في دينكم وأطهر ؛ لأن الصدقة طهرة . 
أما قوله : ( فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم    ) فالمراد منه الفقراء ، وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه . 
المسألة الخامسة : أنكر أبو مسلم  وقوع النسخ ، وقال : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا ، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى  ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه الأصلي ، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت . وحاصل قول أبي مسلم    : أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة ، فلا يكون هذا نسخا ، وهذا الكلام حسن ما به بأس ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : ( أأشفقتم    ) ومنهم من قال : إنه منسوخ بوجوب الزكاة . 
				
						
						
